الظلام في كوننا قبل النور علما لا تكريما
الظلام في كوننا قبل النور علما لا تكريما
يقول سبحانه وتعالى (الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِم يَعْدِلُونَ (1) (الأنعام)
مختصر أقوال المفسرين في هذه الآية
جعل هنا بمعنى خلق والظلمات الليل والنور النهار والضوء الذي في الشمس والقمر. والكلام يخص كل مشرك وقد يختص بالمجوس بدليل الظلمات والنور الذي كانوا يعبدونهم ، والفرق بين الخلق والجعل أن الخلق فيه معنى التقدير وفي الجعل معنى التضمين كإنشاء شيء من شيء أو تصيير شيء شيئا أو نقله من مكان إلى مكان، وجمع لفظ الظلمات ووحد لفظ النور لكونه أشرف وأراد بالظلمات الجهل والنور العلم وقال قتادة يعني الجنة والنار بربهم يعدلون أي يشركون وأصله خلق مساواة الشيء ومنه العدل أي يعدلون بالله غير الله تعالى يقال عدلت هذا بهذا إذا ساويته وبه وعلى جعله الظلمات والنور وذلك شامل للحسي من ذلك كالليل والنهار والشمس والقمر والمعنوي كظلمات الجهل والشك والشرك والمعصية والغفلة ونور العلم والإيمان واليقين والطاعة وقال الضحاك هذه الآية نزلت في شأن المجوس قالوا الله خالق النور والشيطان خالق الظلمة ثم الذين كفروا يعني المجوس , يقال من مساواة الشيء بالشيء عدلت هذا بهذا إذا ساويته به عدلا
وأما في الحكم إذا أنصفت فيه فإنك تقول عدلت فيه أعدل عدلا
قال الآلهة التي عبدوها عدلوها بالله وخلق أي اخترع وأوجد وأنشأ وابتدع وجعل الظلمات والنور ، وقيل ذكر بعد خلق الجواهر خلق الأعراض وفيه رد قول الثنوية بقدم النور والظلمة وقيل الفرق بين الجعل والخلق أن الخلق فيه معنى التقدير والجعل فيه معنى التضمين أي كونه محصلا من ءاخر.
وقد اسهب المفسرين في الحمد وتفصيلاته وفي علاقة الاشراك بهذا الحمد وعلاقة الخلق والجعل معه ولم انقل شيء منه لأنه بعيد عن موضوعنا . كما اسهبوا في تفصيلات النور والظلمة فنقلت واحدا من مائه لكثرتها
لتفسير العلمي والإعجاز القرآني لهذه الآية
في عصر نزول القران الكريم كانت هناك نظريات غريبة عن عملية الابصار وعن الضوء ، فقد كان يعتقد الرومان ومن قبلهم الاغريق ان الضوء يخرج من عين الانسان ليصيب الاشياء التي نراها ، ووضعوا افكارا غريبه للرؤيا والابصار ، فكانوا يعتقدون ان اصل الكون مضاء وان الظلمة تهجم على الضوء فتنهيه وان النار تساعد على اجلاء الظلام ، والظلام يغطى الارض بطريق أشبه الى اكتساح الدخان ، فينسحب الضوء ويعم ظلام اليل لذلك ، وفي احسن نظرياتهم فانهم يعتقدون ان هناك الاها خاصا بالظلام وهو الذى يوجه الظلام كيف يشاء . وفي زحمة هذه الخرافات انزل الله سبحانه وتعالى كتابه على قلب حبيبة محمد صلى الله عليه وسلم يظهر لنا ان اصل الكون هو الظلام (وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا (29)) وذكر سبحانه وتعالى النور والضوء وبأسلوب علمي دقيق جدا سناتي على تفصيله لاحقا , ولكون المفسرين لا يعرفوا هذه المعلومات العلمية وحتى المتأخرين منهم كالألوسي فقد وقعوا في كثير من الحيرة وجزاهم الله خيرا فقد نفعوا بما قالوا. نرجع هنا الى الظلمات والنور فقدم الخطاب القرآني الظلام على النور، وجعل الظلام والنور من امور الكون فليس لها خصائص خرافية فالضوء هو هذا الشعاع الكهرومغناطيسي المختلف الطول الموجي والمتولد من الاجسام الحارة والذي يسير بصورة مستقيمه تقريبا في الكون وفيه ما يرى بالعيون البشرية وهوبين طول موجي 350-750 نانو ميتر تقريبا والحيوانات لها مدى مختلف(كانونك للفسلجه ص163) كما ان الانسان اكتشف اجهزه يستطيع ان يرى بمديات اكبر ولكن ليس بنفس الوضوح أي يرى التحت الحمراء والفوق البنفسجي , وما لم يختلف عليه العلماء ان الضوء المرئي لم يتكون الا بعد ضهور الشموس او النجوم أي بعد مرحله وزمن من تكون الكون ولكن هناك اشعاعات مختلفة تملا الكون ولكنها لا تدخل في مساحة النور او الضوء المرئي موجوده من اول يوم للخلق , أي ان الظلمات سبقت النور كما ان السماوات سبقت في خلقها الارض , فالأرض تكونت مع ضهور مجموعتنا الشمسية بعد ستة بلاين سنه من بدئ الكون وتكون السماوات وهذا لم يعد مشكوك فيه ، وهنا نرجع الى الآية الكريمة فالله سبحانه وتعالى يوضح ان الله الذى خلق السماوات والارض وجعل الظلمات والنور ، أي ان السماوات والارض خلقت اما الظلامات والنور هو ناتج عنها فقال عنها سبحانه وتعالى ( وجعل الظلمات والنور) فهي نتاج الكون فالضوء هو ناتج من خلق الشموس والنجوم في السموات والظلام هو ظل الكواكب او كل ما يرشح ويخفف او يعدم النور او يمنع وصوله الى العين وهنا يجب ان نعرف ان هناك فرق عن ان نقول (وجعل الظلمات والضوء) حيث يدخل في المدى الضوئي اشعاعات كونيه متكونه مع الانفجار الاعظم أي مع اول يوم للكون ، ولكن ماذا يكون لو كان القران من وضع البشر في ذلك الوقت ؟ سيقول بعد خلق السماوات والارض خلق الظلمات والنور فيكون خطأ اعتبره في ذلك الوقت كلاما ادبيا جميلا ، والظلام كما وضحه سبحانه اصل الكون ( وأغطش ليلها ) ليس فيه تخليق .ولكن القران نزله رب العزة وخالق الكون فكان ان جعل الظلمات والنور ، ومرة اخرى انها ظلمات عديده ونور واحد ، فليس الكلام مجازيا للحق الواحد وكثرة الباطل بل هو حقيقة علمية دقيقة كانت في وقت نزول الرسالة لا تخطر على بال بشر ، انها ظلمه بعد ظلمه فكل حاجز يمنع وصول النور هو ظلمه ، فالاستطاره والتشتت ووجود الحواجز ووجود الضباب والغيوم والدخان كله ظلمه وتعطل أي جزء في العين يمنع وصول النور الى الشبكية هو ظلمة ، وتعطل عمل أي مستوى عصبي ابتداء من شبكية العين الى قشرة الدماغ هو ظلمة ولكن النور واحد ، وبكل طيفه فهو واحد وهذا يؤيده ادق التجارب العلمية فأي نور ( وهو الجزء المرئي من الطيف الضوئي ) وبأي لون سوف يؤدى الى الابصار اي لو اضئنا المكان باللون الاحمر فسنبصر, او ازرق او اخضر ، فكم نعمه النور عظيمة انها تستحق ان نشكر الله عليها لأنه انعم علينا بالنور وهذه الامور اشكلت على المفسرين لنقص المعلومات العلمية لديهم ، وان نشكره على النور فهذا واضح ولكن كيف نشكر الله على الظلمات ونحمده عليها ، هذا الظلام الذى يخافه العرب قديما ويمقتوه فان شكر الله على الظلام يصعب اعتقاده من المشركين البدائيين ، اما الآن فعلم الفسلجة يؤكد ما لا يقبل الشك ان الظلام نعمه عظيمة يحتاجها الانسان للسكون ، وعدم وجود الظلام سوف يجعل الانسان بحاله من الشد العصبي وعدم الارتياح النفسي هذا في المظهر العام للظلمات اما التفصيل العلمي لها فنحن في امس الحاجه الى الظلمات او بتعبير آخر الى العتمة فلولا العتمة لأصبح كل شيء شفافا يخترقه النور أي لا نستطيع ان نرى شيئا ولن يكون هناك اشكالا مرئيه فعتمة الاجسام هو الذي يجعلها تصد وتعكس الضوء فتكون لها هيئة مرئيه والوانا ويكون لها ضلا بسبب ذلك ومن العتمة تتكون الظلمة ، يقول سبحانه وتعالى (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُم بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلا تُبْصِرُونَ (72)) لذلك فإننا نحمد الله ان جعل الظلمات والنور.
اقوال المفسرين لمن يحب الرجوع اليها
التسهيل لعلوم التنزيل – الكلبى ج2/ص2
قال كعب أول الأنعام هو أول التوراة وجعل الظلمات والنور جعل هنا بمعنى خلق والظلمات الليل والنور النهار والضوء الذي في الشمس والقمر وغيرهما وإنما أفرد النور لأنه أراد الجنس وفي الآية رد على المجوس في عبادتهم للنار وغيرها من الأنوار وقولهم إن الخير من النور والشر من الظلمة فإن المخلوق لا يكون إلها ولا فاعلا لشيء من الحوادث ثم الذين كفروا بربهم يعدلون أي يسوون ويمثلون من قولك عدلت فلانا بفلان إذا جعلته نظيره وقرينه ودخلت ثم لتدل على استبعاد أن يعدلوا بربهم بعد وضوح آياته في خلق السموات والأرض والظلمات والنور وكذلك قوله ثم أنتم تمترون استبعاد لأن يمتروا فيه بعد ما ثبت أنه أحياهم وأماتهم وفي ضمن ذلك تعجيب من فعلهم وتوبيخ لهم والذين كفروا هنا عام في كل مشرك وقد يختص بالمجوس بدليل الظلمات والنور وبعبدة الأصنام لأنهم المجاورون للنبي صلى الله عليه وسلم وعليهم يقع الرد في أكثر القرآن
التفسير الكبير – الرازي ج12/ص118
اعلم أن الكلام المستقصى في قوله الحمد لله قد سبق في تفسير سورة الفاتحة ولا بأس بأن نعيد بعض تلك الفوائد وفيه مسائل
المسألة الأولى في الفرق بين المدح والحمد والشكر
اعلم أن المدح أعم من الحمد والحمد أعم من الشكر
أما بيان أن المح أعم من الحمد فلأن المدح يحصل للعاقل ولغير العاقل ألا ترى أنه كما يحسن مدح الرجل اللعاقل على أنواع فضائله فكذلك قد يمدح اللؤلؤ لحسن شكله ولطافة خلقته ويمدح الياقوت على نهاية صفائه وصقالتها فيقال ما أحسنه وما أصفاه وأما الحمد فانه لا يحصل إلا للفاعل المختار على ما يصدر منه من الإنعام والإحسان فثبت أن المدح أعم من الحمد
وأما بيان أن الحمد أعم من الشكر فون الحمد عبارة عن تعظيم الفاعل لأجل ما صدر عنه من الإنعام سواء كان ذلك الإنعام واصلا إليك أو إلى غيرك وأما الشكر فهو عبارة عن تعظيمه لأجل إنعام وصل إليك وحصل عندك فثبت بما ذكرنا أن المدح أعم من الحمد وهو أعم من الشكر
إذا عرفت هذا فنقول إنما لم يقل المدح لله ونا بينا أن المدح كما يحصل للفاعل المختار فقد يحصل لغيره أما الحمد فانه لا يحصل إلا للفاعل المختار فكان قوله الحمد لله تصريحا بأن المؤثر في وجود هذا العالم فاعل مختار خلقه بالقدرة والمشيئة وليس علة موجبة له إيجاب العلة لمعلولها ولا شك أن هذه الفائدة عظيمة في الدين وإنما لم يقل الشكر لله لأنا بينا أن الشكر عبارة عن تعظيمة بسبب انعام صدر منه ووصل إليك وهذا مشعر بأن العبد إذا ذكر تعظيمه بسبب ما وصل إليه من النعمة فحينئذ يكون المطلوب الأصلي به وصول النعمة إليه وهذه درجة حقيرة فأما إذا قال الحمد لله فهذا يدل على أن العبد حمده لأجل كونه مستحقا للحمد لا لخصوص أنه تعالى أوصل النعمة إليه فيكون الاخلاص أكمل واستغراق القلب في مشاهدة نور الحق أتم وانقطاعه عما سوى الحق أقوى وأثبت
المسألة الثانية الحمد لفظ مفرد محلى بالألف واللام فيفيد أصل الماهية إذا ثبت هذا فنقول قوله الحمد لله يفيد أن هذه الماهية لله وذلك يمنع من ثبوت الحمد لغير الله فهذا يقتضي أن جميع أقسام الحمد والثناء والتعظيم ليس إلا لله سبحانه
فإن قيل إن شكر المنعم واجب مثل شكر الأستاذ على تعليمه وشكر السلطان على عدله وشكر المحسن على إحسانه كما قال عليه الصلاة والسلام من لم يشكر الناس لم يشكر الله
قلنا المحمود والمشكور في الحقيقة ليس إلا الله وبيانه من وجوه الأول صدور الاحسان من العبد يتوقف على حصول داعية الاحسان في قلب العبد وحصول تلك الداعية في القلب ليس من العبد وإلا لافتقر في حصولها إلى داعية أخرى ولزم التسلسل بل حصولها ليس إلا من الله سبحانه فتلك الداعية عند حصولها يجب الفعل وعند زوالها يمتنع الفعل فيكون المحسن في الحقيقة ليس إلا الله فيكون المستحق لكل حمد في الحقيقة هو الله تعالى وثانيها أن كل من أحسن من المخلوقين إلى الغير فإنه إنما يقدم على ذلك الإحسان إما لجلب منفعة أو دفع مضرة أما جلب المنفعة فانه يطمع بواسطة ذلك الإحسان بما يصير سببا لحصول السرور في قلبه أو مكافأة بقليل أو كثير في الدنيا أو وجدان ثواب في الآخرة وأما دفع المضرة فهو أن الإنسان إذا رأى حيوانا في ضر أو بلية فإنه يرق قلبه عليه وتلك الرقة ألم مخصوص يحصل في القلب عند مشاهدة وقوع ذلك الحيوان في تلك المضرة فإذا حاول إنقاذ ذلك الحيوان من تلك المضرة زالت تلك الرقة عن القلب وصار فارغ القلب طيب الوقت فذلك الإحسان كأنه سبب أفاد تخليص القلب عن ألم الرقة الحسية فثبت أن كل ما سوى الحق فإنه يستفيد بفعل الإحسان إما جلب منفعة أو دفع مضرة أما الحق سبحانه وتعالى فإنه يحسن ولا يستفيد منه جلب منفعة ولا دفع ممضرة وكان المحسن الحقيقي ليس إلا الله تعالى فبهذا السبب كان المستحق لكل أقسام الحمد هو الله فقال الحمد لله وثالثها أن كل إحسان يقدم عليه أحد من الخلق فالانتفاع به لا يكمل إلا بواسطة إحسان الله ألا ترى أنه لولا أن الله تعالى خلق أنواع النعمة وإلا لم يقدر الإنسان على إيصال تلك الحنطة والفواكه إلى الغير وأيضا فلولا أنه سبحانه أعطى الإنسان الحواس الخمس التي بها يمكنه الانتفاع بتلك النعم وإلا لعجز عن الانتفاع بها ولولا أنه سبحانه أعطاه المزاج الصحي والبنية السليمة وإلا لما أمكنه الانتفاع بها فثبت أن كل إحسان يصدر عن محسن سوى الله تعالى فإن الانتفاع به لا يكمل إلا بواسطة إحسان الله تعالى وعند هذا يظهر أنه لا محسن في الحقيقة إلا الله ولا مستحق للحمد إلا الله فلهذا قال الحمد لله ورابعها أن الانتفاع بجميع النعم لا يمكن إلا بعد وجود المنتفع بعد كونه حيا قادرا عالما ونعمة الوجود والحياة والقدرة والعلم ليست إلا من الله سبحانه والتربية الأصلية والأرزاق المختلفة لا تحصل إلا من الله سبحانه من أول الطفولية إلى آخر العمر ثم إذا تأمل الإنسان في آثار حكمة الرحمان في خلق الإنسان ووصل إلى ما ألأدع الله تعالى في أعضائه من أنواع المنافع والمصالح علم أنها بحر لا ساحل له كما قال تعالى وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها إبراهيم 34 فبتقدير أن نسلم أن العبد يمكنه أن ينعم على الغير إلا أن نعم العبد كالقطرة ونعم الله لا نهاية لها أولا وآخرا وظاهرا وباطنا فلهذا السبب كان المستحق للحمد المطلق والثناء المطلق ليس إلا الله سبحانه فلهذا قال الحمد لله
المسألة الثالثة إنما قال الحمد لله ولم يقل أحمد الله لوجوه أحدها أن الحمد صفة القلب
وربما احتاج الإنسان إلى أن يذكر هذه اللفظة حال كونه غافلا بقلبه عن استحضار معنى الحمد والثناء فلو قال في ذلك الوقت أحمد الله كان كاذبا واستحق عليه الذم والعقاب حيث أخبر عن دعوى شيء مع أنه ما كان موجودا أما إذا قال الحمد لله فمعناه أن ماهية الحمد وحقيقته مسلمة لله تعالى وهذا الكلام حق وصدق سواء كان معنى الحمد والثناء حاضرا في قلبه أو لم يكن وكان تكلمه بهذا الكلام عبادة شريفة وطاعة رفيعة فظهر الفرق بين هذين اللفظين وثانيها روي أنه تعالى أوحى إلى داود عليه السلام يأمره بالشكر فقال داود يا رب وكيف أشكرك وشكري لك لا يحصل إلا أن توفقني لشكرك وذلك التوفيق نعمة زائدة وإنها توجب الشكر لي أيضا وذلك يجر إلى ما لا نهاية له ولا طاقة لي بفعل ما لا نهاية له فأوحى الله تعالى إلى داود لما عرفت عجزك عن شكري فقد شكرتني
إذا عرفت هذا فنقول لو قال العبد أحمد الله كان دعوى أنه أتى بالحمد والشكر فيتوجه عليه ذلك السؤال أنما لو قال الحمد لله فليس فيه ادعاء أن العبد أتى بالحمد والثناء بل ليس فيه إلا أنه سبحانه مستحق للحمد والثناء سواء قدر على الإتيان بذلك الحمد أو لم يقدر عليه فظهر التفاوت بين هذني اللفظين من هذا الوجه وثالثها أنه لو قال أحمد الله كان ذلك مشعرا بأنه ذكر حمد نفسه ولم يذكر حمد غيره أما إذا قال الحمد لله فقد دخل فيه حمده وحمد غيره من أول خلق العالم إلى آخر استقرار المكلفين في درجات الجنان ودركات النيران كما قال تعالى دعواهم فيها سبحـانك اللهم وتحيتهم فيها سلام يونس 10 فكان هذا الكلام أفضل وأكمل
المسألة الرابعة اعلم أن هذه الكلمة مذكورة في أول سور خمسة أولها الفاتحة فقال الحمد لله رب العـالمين الفاتحة 2 وثانيها في يأول هذه السورة فقال الحمد لله الذى خلق السمـاوات والارض الأنعام 1 والأول أعم لأن العالم عبارة عن كل موجود سوى الله تعالى فقوله الحمد لله رب العالمين يدخل فيه كل موجود سوى الله تعالى أما قوله الحمد لله رب العالمين يدخل فيه كل موجود سوى الله تعالى أما قوله يدخل فيه كل موجود سوى الله تعالى أما قوله الحمد لله الذى خلق السمـاوات والارض لا يدخل فيه إلا خلق السموات والأرض والظلمات والنور ولا يدخل فيه سائر الكائنات والمبدعات فكان التحميد المذكور في أول هذه السورة كأنه قسم من الأقسام الداخلة تحت التحميد المذكور في سورة الفاتحة وتفصيل لتلك الجملة وثالثها سورة الكهف فقال الحمد لله الذى أنزل على عبده الكتـاب الكهف 1 وذلك أيضا تحميد مخصوص بنوع خاص من النعمة وهو نعمة العلم والمعرفة والهداية والقرآن وبالجملة النعم الحاصلة بواسطة بعثة الرسل ورابعها سورة سبأ وهي قوله الحمد لله الذى له ما فى السمـاوات وما في الارض سبأ 1 وهو أيضا قسم من الأقسام الداخلة تحت قوله الحمد لله رب العـالمين وخامسها سورة فاطر فقال الحمد لله فاطر السمـاوات والارض فاطر 1 وظاهر أيضا أنه قسم من الأقسام الداخلة تحت قوله الحمد لله رب العـالمين فظهر أن الكلام الكلي التام هو التحميد المذكور في أول الفاتحة وهو قوله الحمد لله رب العـالمين وذلك لأن كل موجود فهو إما واجب الوجود لذاته وإما ممكن الوجود لذاته وواجب الوجود لذاته واحد وهو الله سبحانه وتعالى وما سواه ممكن وكل ممكن فلا يمكن دخوله في الوجود إلا بإيجاد الله تعالى وتكوينه والوجود نعمة فالإيجاد إنعام وتربية فلهذا السبب قال الحمد لله رب العـالمين وأنه تعالى المربي لكل ما سواه والمحسن إلى كل ما سواه فذلك الكلام هو الكلام الكلي الوافي
بالمقصود أما التحميدات المذكورة في أوائل هذه السور فكان كل واحد منها قسم من أقسام ذلك التحميد ونوع من أنواعه
فإن قيل ما الفرق بين الخالق وبين الفاطر والرب وأيضا لم قال ههنا خلق السمـاوات والارض بصيغة فعل الماضي وقال في سورة فاطر الحمد لله فاطر السمـاوات والارض بصيغة اسم الفاعل
فنقول في الجواب عن الأول الخلق عبارة عن التقدير وهو في حق الحق سبحانه عبارة عن علمه النافذ في جميع الكليات والجزئيات الواصل إلى جميع ذوات الكائنات والممكنات وأما كونه فاطرا فهو عبارة عن الإيجاد والابداع فكونه تعالى خالقا إشارة إلى صفة العلم وكونه فاطرا إشارة إلى صفة القدرة وكونه تعالى ربا ومربيا مشتمل على الأمرين فكان ذلك أكمل
والجواب عن الثاني أن الخلق عبارة عن التقدير وهو في حق الله تعالى عبارة عن علمه بالمعلومات والعمل بالشيء سصح تقدمه على وجود المعلوم ألا ترى أنه يمكننا أن نعلم الشيء قبل دهوله في الوجود أما إيجاد الشيء فإنه لا يحصل إلا حال وجود الأثر بناء على مذهبنا أن القدرة إنما تؤثر في وجود المقدور حال وجود المقدور فلهذا السبب قال خلق السمـاوات والمراد أنه كان عالما بها قبل وجودها وقال فاطر السمـاوات والارض والمراد أنه تعالى إنما يكون فاطرا لها وموجدا لها عند وجودها
المسألة الخامسة في قوله الحمد لله قولان الأول المراد منه احمدوا الله تعالى وإنما جاء على صيغة الخبر لفوائد إحداها أن قوله الحمد لله يفيد تعليم اللفظ والمعنى ولو قال احمدوا لم يحصل مجموع هاتين الفائدتين وثانيها أنه يفيد أنه تعالى مستحق الحمد سواء حمده حامد أو لم يحمده وثالثها أن المقصود منه ذكر الحجة فذكره بصيغة الخبر أولى
والقول الثاني وهو قول أكثر المفسرين معناه قولوا الحمد لله قالوا والدليل على أن المراد منه تعليم العباد أنه تعالى قال في أثناء السورة إياك نعبد وإياك نستعين وهذا الكلام لا يليق ذكره إلا بالعباد والمقصود أنه سبحانه لما أمر بالحمد وقد تقرر في العقول أن الحمد لا يحسن إلا على الإنعام فحينئذ يصير هذا الأمر حاملا للمكلف على أن يتفكر في أقسام نعم الله تعالى عليه ثم إن تلك النعم يستدل بذكرها على مقصودين شريفين أحدهما أن هذه النعم قد حدثت بعد أن كانت معدومة فلا بد لها من محدث ومحصل وليس ذلك هو العبد لأن كل أحد يريد تحصيل جميع أنواع النعم لنفسه فلو كان حصول النعم للعبد بواسطة قدرة العبد واختياره لوجب أن يكون كل واحد واصلأ إلى جميع أقسام النعم إذ لا أحد إلا وهو يريد تحصيل كل النعم لنفسه ولما ثبت أنه لا بد لحدوث هذه النعم من محدث وثبت أن ذلك المحدث ليس هو العبد فوجب الاقرار بمحدث قاهر قادر وهو الله سبحانه وتعالى
والنوع الثاني من مقاصد هذه الكلمة أن القلوب مجبولة على حب من أحسن إليها وبغض من أساء إليها فإذا أمر الله تعالى العبد بالتحميد وكان الأمر بالتحميد مما يحمله على تذكر أنواع نعم الله تعالى صار ذلك التكليف حاملا للعبد على تذكر أنواع نعم الله عليه ولما كانت تلك النعم كثيرة خارجة عن الحد والاحصاء صار تذكر تلك النعم موجبة رسوخ حب الله تعالى في قلب العبد فثبت أن تذكيرالنعم يفيد هاتين الفائدتين الشريفتين إحداهما الاستدلال بحدوثها عن الاقرار بوجود الله تعالى وثانيهما أن الشعور بكونها نعما يوجب ظهور حب الله في القلب ولا مقصود من جميع العبادات إلا هذان الأمران فلهذا السبب وقع الابتداء في هذا الكتاب الكريم بهذه الكلمة فقال الحمد لله رب العـالمين
واعلم أن هذه الكلمة بحر لا ساحل له لأن العالم اسم لكل ما سوى الله تعالى وما سوى الله إما جسم أو حال فيه أو لا جسم ولا حال فيه وهو الأرواح ثم الأجسام إما فلكية وءما عنصرية أما الفلكيات فأولها العرش المجيد ثم الكرسي الرفيع ويجب على العاقل أن يعرف أن العرش ما هو وأن الكرسي ما هو وأن يعرف صفاتهما وأحوالهما ثم يتأمل أن اللوح المحفوظ والقلم والرفرف والبيت المعمور وسدرة المنتهى ما هي وأن يعرف حقائقها ثم يتفكر في طبقات السموات وكيفية اتساعها وأجرامها وأبعادها ثم يتأمل في الكواكب الثابتة والسيارة ثم يتأمل في عالم العناصر الأربعة والمواليد الثلاثة وهي المعادن والنبات والحيوان ثم يتأمل في كيفية حكمة الله تعالى في خلقه الأشياء الحقيرة والضعيفة كالبق والبعوض ثم ينتقل منها إلى معرفة أجناس الأعراض وأنواعها القريبة والبعيدة وكيفية المنافع الحاصلة من كل نوع من أنواعها ثم ينتقل منها إلى تعرف مراتب الأرواح السفلية والعلوية والعرشية والفلكية ومراتب الأرواح المقدسة عن علائق الأجسام المشار إليها بقوله ومن عنده لا يستكبرون عن عبادته الأنبياء 19 فإذا استحضر مجموع هذه الأشياء بقدر القدرة والطاقة فقد حضر في عقله ذرة من معرفة العالم وهو كل ما سوى الله تعالى ثم عند هذا يعرف أن كل ما حصل لها من الوجود وكمالات الوجود في ذواتها من صفاتها وأحوالها وعلائقها فمن إيجاد الحق ومن جوده ووجوده فعند هذا يعرف من معنى قوله الحمد لله رب العـالمين ذرة وهذا بحر لا ساحل له وكلام لا آخر له والله أعلم
المسألة السادسة إنا وإن ذكرنا أن قوله الحمد لله رب العـالمين أجري مجرى قوله قولوا الحمد لله رب العالمين فإنما ذكرناه لأن قوله في أثناء السورة إياك نعبد وإياك نستعين لا يليق إلا بالعبد فلهذا السبب افتقرنا هناك إلى هذا الاضمار أما هذه السورة وهي قوله الحمد لله الذى خلق السمـاوات والارض فلا يبعد أن يكون المراد منه ثناء الله تعالى به على نفسه
وإذا ثبت هذا فنقول إن هذا يدل من بعض الوجوه على أنه تعالى منزه عن الشبيه في اللذات والصفات والأفعال وذلك لأن قوله الحمد لله جار مجرى مدح النفس وذلك قبيح في الشاهد فلما أمرنا بذلك دل هذا على أنه لا يمكن قياس الحق على الخلق فكما أن هذا قبيح من الخلق مع أنه لا يقبح من الحق فكذلك ليس كل ما يقبح من الخلق وجب أن يقبح من الحق وبهذا الطريق وجب أن يبطل كلمات المعتزلة في أن ما قبح منا وجب أن يقبح من الله
إذا عرفت بهذا الطريق أن أفعاله لا تشبه أفعال الخلق فكذلك صفاته لا تشبه صفات الخلق وذاته لا تشبه ذوات الخلق وعند هذا يحصل التنزيه المطلق والتقديس الكامل عن كونه تعالى مشابها لغيره في الذات والصفات والأفعال فهو الله سبحانه واحد في ذاته لا شريك له في صفاته ولا نظير له واحد في أفعاله لا شبيه له تعالى وتقدس والله أعلم أما قوله سبحانه الذى خلق السمـاوات والارض ففيه مسألتان الأولى في السؤالات المتوجهة على هذه الآية وهي ثلاثة
السؤال الأول أن قوله الحمد لله الذى خلق السمـاوات والارض جار مجرى ما يقال جاءني الرجل الفقيه فإن هذا يدل على وجود رجل آخر ليس بفقيه وإلا لم يكن إلى ذكر هذه الصفة حاجة كذا ههنا قوله الحمد لله الذى خلق السمـاوات والارض يوهم أن هناك إلها لم يخلق السموات والأرض وإلا فأي فائدة في هذه الصفة
والجواب أنا بينا أن قوله الله جار مجرى اسم العلم فإذا ذكر الوصف لاسم العلم لم يكن المقصود من ذكر الصوف التمييز بل تعريف كون ذلك المعنى المسمى موصوفا بتلك الصفة مثاله إذا قلنا الرجل العالم فقولنا الرجل اسم الماهية والماهية تتناول الأشخاص المذكورين الكثيرين فكان المقصود ههنا من ذكر الوصف تمييز هذا الرجل بهذا الاعتبار عن سائر الرجال بهذه الصفة أما إذا قلنا زيد العالم فلفظ زيد اسم علم وهو لا يفيد إلا هذه الذات المعينة لأن أسماء الأعلام قائمة مقام الإشارات فإذا وصفناه بالعلمية امتنع أن يكون المقصود منه تمييز ذلك الشخص عن غيره بل المقصود منه تعريف كون ذلك المسمى موصوفا بهذه الصفة ولما كان لفظ الله من باب أسماء الأعلام لا جرم كان الأمر على ما ذكرناه والله أعلم
السؤال الثاني لم قدم ذكر السماء على الأرض مع أن ظاهر التنزيل يدل على أن خلق الأرض مقدم على خلق السماء والجواب السماء كالدائرة والأرض كالمركز وحصول الدائرة يوجب تعين المركز ولا ينعكس فإن حصول المركز لا يوجب تعين الدائرة لإمكان أن يحيط بالمركز الواحد دوائر لا نهاية لها فلما كانت السماء متقدمة على الأرض بهذا الاعتبار وجب تقديم ذكر السماء على الأرض بهذا الاعتبار
السؤال الثالث لم ذكر السماء بصيغة الجمع والأرض بصيغة الواحد مع أن الأرضين أيضا كثيرة بدليل قوله تعالى ومن الارض مثلهن الطلاق 12
والجواب أن السماء جارية مجرى الفاعل والأرض مجرى القابل فلو كانت المساء واحدة لتشابه الأثر وذلك يخل بمصالح هذا العالم أما لو كانت كثيرة اختلفت الاتصالات الكوكبية فحصل بسببها الفصول الأربعة وسائر الأحوال المختلفة وحصل بسبب تلك الاختلافات مصالح هذا العالم أما الأرض فهي قابلة للأثر والقابل الواحد كاف في القبول وأما دلالة الآية المذكورة على تعدد الأرضين فقد بينا في تفسير تلك الآية كيفية الحال فيها والله أعلم
المسألة الثانية اعلم أن المقصود من هذه الآية ذكر الدلالة على وجود الصانع وتقريره أن أجرام السموات والأرض تقدرت في أمور مخصوصة بمقادير مخصوصة وذلك لا يمكن حصوله إلا بتخصيص الفاعل المختار أما بيان المقام الأول فمن وجوه الأول أن كل فلك مخصوص اختص بمقدار معين مع جواز أن يكون الذي كان حاصلا مقدارا أزيد منه أو أنقص منه والثاني أن كل فلك بمقدار مركب من أحزاء والجزء الداخل كان يمكن وقوعه خارجا وبالعكس فوقوع كل واحد منها في حيزه الخاص أمر جائز والثالث أن الحركة والسكون جائزان على كل الأجسام بدليل أن الطبيعة الجسمية واحدة ولوازم الأمور الواحدة بالحركة دون السكون اختصاص بأمر ممكن والرابع أن كل حركة فإنه يمكن وقوعها أسرع مما وقع وأبطأ مما وقع فاختصاص تلك الحركة المعينة بذلك القدر المعين من السرعة والبطء اختصاص بأمر ممكن والخامس أن كل حركة وقعت متوجهة إلى جهة فإنه يمكن وقوعها متوجهة إلى سائر الجهات فاختصاصها بالوقوع على ذلك الوجه الخاص اختصاص بأمر ممكن والسادس أن كل فلك فإنه يوجد جسم آخر إما أعلى منه وإما أسفل منه وقد كان وقوعه على خلاف ذلك الترتيب أمرا ممكنا بدليل أن الأجسام لما كانت متساوية في الطبيعة الجسمية فكل ما صح على بعضها صح على كلها فكان اختصاصه بذلك الحيز والترتيب أمرا ممكنا والسابع وهو أن لحركة كل فلك أولا لأن وجو حركة لا أول لها محال لأن حقيقة الحركة انتقال من حالة إلى حالة وهذا الانتقال يقتضي كونها مسبوقة بالغير والأول ينافي المسبوقية بالغير والجمع بينهما محال فثبت أن لكل حركة أولا واختصاص ابتداء حدوثه بذلك الوقت دون ما قبله وما بعده اختصاص بأمر ممكن والثامن هو أن الأجسام لما كانت متساوية في تمام الماهية كان اتصاف بعضها بالفلكية وبعضها بالعنصرية دون العكس اختصاصا بأمر ممكن والتاسع وهو أن حركاتها فعل لفاعل مختار ومتى كان كذلك فلها أول بيان المقام الأول أن المؤثر فيها لو كان علة موجبة بالذات لزم من دوام تلك العلة دوام آثارها فيلزم من دوام تلك العلة دوام كل واحد من الأجزاء المتقومة في هذه الحركة ولما كان ذلك محالا ثبت أن المؤثر فهيا ليس علة موجبة بالذات بل فاعلا مختارا وإذا كان كذلك وجب كون ذلك الفاعل متقدما على هذه الحركات وذلك يوجب أن يكون لها بداية العاشر أنه ثبت بالدليل أنه حصل خارج العالم خلاء لا نهاية له بدليل أنا نعلم بالضرورة أنا لو فرضنا أنفسنا واقفين على طرف الفلك الأعلى فإنا نميز بين الجهة التي تلي قدامنا وبين الجهة التي تلي خلفنا وثبوت هذا الامتياز معلوم بالضرورة وإذا كان كذلك ثبت أنه حصل خارج العالم خلاء لا نهاية له وإذا كان كذلك فحصول هذا العالم في هذا الحيز الذي حصل فيه دون سائر الأحياز أمر مكن فثبت بهذه الوجوه العشرة أن أجرام السموات والأرضين مختلفة بصفات وأحوال فكان يجوز في العقل حضول أضدادها ومقابلاتها فوجب أن لا يحصل هذا الاختصاص الخاص إلا لمرجح ومقدر وإلا فقد ترجح أحد طرفي الممكن على الآخر لا لمرجح وهو محال
وإذا ثبت هذا فنقول إنه لا معنى للخلق إلا التقدير فلما دل العقل على حصول التقدير من هذه الوجوه العشرة وجب حصول الخلق من هذه الوجوه العشرة فلهذا المعنى قال الحمد لله الذى خلق السمـاوات والارض والله أعلم ومن الناس من قال المقصود من ذكر السموات والأرض والظلمات والنور التنبيه على ما فيها من المنافع
واعلم أن منافع السموات أكثر من أن تحيط بجزء من أجزائها المجلدات وذلك لأن السموات بالنسبة إلى مواليد هذا العالم جارية مجرى الأب والأرض بالنسبة إليها جارية مجرى الأم فالعلل الفاعلة سماوية
أما قوله وجعل الظلمـات والنور ففيه مسائل
المسألة الأولى لفظ جعل يتعدى إلى مفعول واحد إذا كان بمعنى أحدث وأنشأ كقوله تعالى وجعل الظلمـات والنور وإلى مفعولين إذا كان بمعنى صير كقوله وجعلوا الملـئكة الذين هم عباد الرحمـان إنـاثا الزخرف 19 والفرق بين الخلق والجعل أن الخلق فيه معنى التقدير وفي الجعل معنى التضمين والتصيير كإنشاء شيء من شيء وتصيير شيء شيئا ومنه قوله تعالى وجعل منها زوجها الأعراف 189 وقوله وجعلنا لهم أزواجا الرعد 38 وقوله أجعل الالهة إليها واحدا ص 5 وإنما حسن لفظ الجعل ههنا لأن النور والظلمة لما تعاقبا صار كأنه كل واحد منهما إنما تولد من الآخر
المسألة الثانية في لفظ الظلمـات والنور قولان الأول أن المراد منهما الأمران المحسوسان بحس البصر والذي يقوي ذلك أن اللفظ حقيقة فيهما وأيضا هذان الأمران إذا جعلا مقرونين بذكر السموات والأرض فإنه لا يفهم منهما إلا هاتان الكيفيتان المحسوستان والثاني نقل الواحدي عن ابن عباس أنه قال وجعل الظلمـات والنور أي ظلمة الشرلاك والنفاق والكفر والنور يريد نور الإسلام والإيمان والنبوة واليقين ونقل عن الحسن أنه قال يعني الكفر والإيمان ولا تفاوت بين هذين القولين فكان قول الحسن كالتلخيص لقول ابن عباس ولقائل أن يقول حمل اللفظ على الوجه الأول أولى لما ذكرنا أن الأصل حمل اللفظ على حقيقته ولأن الظلمات والنور إذا كان ذكرهما مقرونا بالسموات والأرض لم يفهم منه إلا ما ذكرناه قال الواحدي والأولى حمل اللفظ عليهما معا وأقول هذا مشكل لأنه حمل اللفظ على مجازه واللفظ الواحد بالاعتبار الواحد لا يمكن حمله على حقيقته ومجازه معا
المسألة الثالثة إنما قدم ذكر الظلمات على ذكر النور لأجل أن الظلمة عبارة عن عدم النور عن الجسم الذي من شأنه قبول النور وليست عبارة عن كيفية وجودية مضادة للنور والدليل عليه أنه إذا جلس إنسان بقرب السراج وجلس إنسان آخر بالبعد منه فإن البعيد يرى القريب ويرى ذلك الهواء صافيا مضيئا وأما القريب فإنه لا يرى البعيد ويرى ذلك الهواء مظلما فلو كانت الظلمة كيفية وجودية لكانت حاصلة بالنسبة إلى هذين الشخصين المذكورين وحيث لم يكن الأمر كذلك علمنا أن الظلمة ليست كيفية وجودية
وإذ ثبت هذا فنقول عدم المحدثات متقدم على وجودها فالظلمة متقدمة في التقدير والتحقق على النور فوجب تقديمها في اللفظ ومما يقوي ذلك ما يروى في الأخبار الإلهية أنه تعالى خلق الخلق في ظلمة ثم رش عليهم من نوره
المسألة الرابعة لقائل أن يقول لم ذكر الظلمات بصيغة الجمع والنور بصيغة الواحد فنقول أما من حمل الظلمات على الكفر والنور على الإيمان فكلامه ههنا ظاهر لأن الحق واحد والباطل كثير وأما من حملها على الكيفية المحسوسة فالجواب أن النور عبارة عن تلك الكيفية الكاملة القوية ثم إنها تقبل التناقص قليلا قليلا وتلك المراتب كثيرة فلهذا السبب عبـر عن الظلمات بصيغة الجمع
أما قوله تعالى ثم الذين كفروا بربهم يعدلون
فأعلم أن العدل هو التسوية يقول عدل الشيء بالشيء إذا سواه به ومعنى يعدلون يشركون به غيره
فإن قيل على أي شيء عطف قوله ثم الذين كفروا بربهم يعدلون
قلنا يحتمل أن يكون معطوفا على قوله الحمد لله على معنى أن الله حقيق بالحمد على كل ما خلق لأنه ما خلقه إلا نعمة ثم الذين كفروا بربهم يعدلون فيكفرون بنعمته ويحتمل أن يكون معطوفاف على قوله خلق السمـاوات والارض على معنى أن خلق هذه الأشياء العظيمة التي لا يقدر عليها أحد سواه ثم إنهم يعدلون به جمادا لا يقدر على شيء أصلا
فإن قيل فما معنى ثم
قلنا الفائدة فيه استبعاد أن يعدلوا به بعد وضوح آيات قدرته والله أعلم
الدر المنثور – السيوطي ج3/ص246
– أخرج ابن الضريس في فضائل القرآن وابن جرير وابن المنذر وأبو الشيخ عن كعب قال فتحت التوراة الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض وجعل الظلمات والنور ثم الذين كفروا بربهم يعدلون وختمت الحمد لله الذي لم يتخذ ولدا إلى قوله وكبره تكبيرا
وأخرج عبد بن حميد عن الربيع بن أنس الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض وجعل الظلمات والنور ثم الذين كفروا بربهم يعدلون قال هي في التوراة بستمائة آية
أنه أتاه رجل من الخوارج فقال الحمد لله الذي خلق السموات والأرض وجعل الظلمات والنور ثم الذين كفروا بربهم يعدلون أليس كذلك قال نعم
فانصرف عنه ثم قال ارجع
فرجع فقال أي قل إنما أنزلت في أهل الكتاب
وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وأبو الشيخ عن عبد الرحمن بن أبزي عن أبيه أنه أتاه رجل من الخوارج فقرأ عليه الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض وجعل الظلمات والنور الآية
ثم قال أليس الذي كفروا بربهم يعدلون قال بلى
فانصرف عنه الرجل فقال له رجل من القوم يا ابن أبزي إن هذا أراد تفسير الآية غير ما ترى إنه رجل من الخوارج
قال ردوه علي
فلما جاء قال أتدري فيمن أنزلت هذه الآية قال لا
قال نزلت في أهل الكتاب فلا تضعها في غير موضعها
وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن مجاهد قال نزلت هذه الآية في الزنادقة الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض وجعل الظلمات والنور قال قالوا إن الله لم يخلق الظلمة ولا الخنافس ولا العقارب ولا شيئا قبيحا وإنما خلق النور وكل شيء حسن فأنزل فيهم هذه الآية
وأخرج أبو الشيخ عن مجاهد قال نزل جبريل مع سبعين ألف ملك معهم سورة الأنعام لهم زجل من التسبيح والتكبير والتهليل والتحميد وقال الحمد لله الذي خلق السموات والأرض فكان فيه رد على ثلاثة أديان منهم فكان فيه رد على الدهرية لأن الأشياء كلها دائمة ثم قال وجعل الظلمات والنور فكان فيه رد على المجوس الذين زعموا أن الظلمة والنور هما المدبران وقال ثم الذين كفروا بربهم يعدلون فكان فيه رد على مشركي العرب ومن دعا دون الله إلها
وأخرج ابن جرير عن أبي روق قال كل شيء في القرآن جعل فهو خلق
وأخرج أبو الشيخ عن ابن عباس وجعل الظلمات والنور قال الكفر والإيمان
وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن قتادة في قوله الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض وجعل الظلمات والنور قال خلق الله السموات قبل الأرض والظلمة قبل النور والجنة قبل النار ثم الذين كفروا بربهم يعدلون قال كذب العادلون بالله فهؤلاء أهل الشرك
وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن السدي في قوله وجعل الظلمات والنور قال الظلمات ظلمة الليل والنور نور النهار ثم الذين كفروا بربهم يعدلون قال هم المشركون
وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن مجاهد في قوله ثم الذين كفروا بربهم يعدلون قال يشركون
وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن زيد في قوله ثم الذين كفروا بربهم يعدلون قال الآلهة التي عبدوها عدلوها بالله تعالى وليس لله عدل ولا ند وليس معه آلهة ولا اتخذ صاحبة ولا ولدا
الكشاف – الزمخشري ج2/ص5
جعل يتعدى إلى مفعول واحد إذا كان بمعنى أحدث وأنشأ كقوله وجعل الظلمـات والنور وإلى مفعولين إذا كان بمعنى صير كقوله وجعلوا الملـئكة الذين هم عباد الرحمـان إنـاثا الزخرف 19 والفرق بين الخلق والجعل أن الخلق فيه معنى التقدير وفي الجعل معنى التضمين كإنشاء شيء من شيء أو تصيير شيء شيئا أو نقله من مكان إلى مكان ومن ذلك وجعل منها زوجها الأعراف 189 وجعل الظلمـات والنور لأن الظلمات من الأجرام المتكاثفة والنور من النار ثم جعلنـاكم أزواجا فاطر 11 أجعل الالهة إلـاها واحدا ص 5 فإن قلت لم أفرد النور قلت للقصد إلى الجنس كقوله تعالى والملك على أرجائها الحاقة 17 أو لأن الظلمات كثيرة لأنه ما من جنس من أجناس الأجرام إلا وله ظل وظله هو الظلمة بخلاف النور فإنه من جنس واحد وهو النار فإن قلت علام عطف قوله ثم الذين كفروا بربهم يعدلون قلت إما على قوله الحمد لله على معنى أن الله حقيق بالحمد على ما خلق لأنه ما خلقه إلا نعمة ثم الذين كفروا به يعدلون فيكفرون نعمته وإما على قوله خلق السمـاوات على معنى أنه خلق ما خلق مما لا يقدر عليه أحد سواه ثم هم يعدلون به ما لا يقدر على شيء منه فإن قلت فما معنى ثم قلت استبعاد أن يعدلوا به بعد وضوح آيات قدرته وكذلك ثم أنتم تمترون الأنعام 2 استبعاد لأن يمتروا فيه بعد ما ثبت أنه محييهم ومميتهم وباعثهم
تفسير أبي السعود ج3/ص104
مكية غير ست آيات أو ثلاث من قوله تعالى قل تعالوا أتل وهي مائة وخمس وستون آية
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله تعليق الحمد المعرف بلام الحقيقة اولا باسم الذات الذي عليه يدور كافة ما يوجبه من صفات الكمال وإليه يؤول جميع نعوت الجلال والجمال للإيذان بأنه عز وجل هو المستحق له بذاته لما مر من اقاتضاء اختصاص الحقيقة به سبحانه لاقتصار جميع أفرادها عليه بالطريق البرهاني ووصفه تعالى ثانيا بما ينبىء عن تفصيل بعض موجباته المنتظمة في سلك الإجمال من عظائم الآثار وجلائل الأفعال من قوله عز وجل الذي خلق السماوات والأرض للتنبيه على استحقاقه تعالى له واستقلاله به باعتبار أفعاله العظائم وآلائه الجسام أيضا وتخصيص خلقهما بالذكر لاشتمالهما على جملة الآثار العلوية والسفلية وعامة الآلاء الجلية والخفية التي أجلها نعمة الوجود الكافية في إيجاب حمده تعالى على كل موجود فكيف بما يتفرع عليها من فنون النعم الأنفسية والآفاقية المنوط بها مصالح العباد في المعاش والمعاد أي أنشأهما على ما هما عليه من النمط الفائق والطراز الرائق منطويتين من أنواع البدائع وأصناف الروائع على ما تتحير فيه العقول والأفكار من تعاجيب العبر والآثار تبصرة وذكرى لأولي الأبصار وجمع السموات لظهور تعدد طبقاتها واختلاف آثارها وحركاتها وتقديمها لشرفها وعلو مكانها وتقدمها وجودا على الأرض كما هي وجعل الظلمات والنور عطف على خلق مترتب عليه لكون جعلهما مسبوقا بخلق منشئهما ومحلهما داخل معه في حكم الإشعار بعلة الحمد فكما أن خلق السموات والأرض وما بينهما لكونه اثرا عظيما ونعمة جليلة موجب لاختصاص الحمد بخالقهما جل وعلا كذلك جعل الظلمات والنور لكونه أمرا خطيرا ونعمة عظيمة مقتض لاختصاصه بجاعلهما والجمل هو الإنشاء والإبداع كالخلق خلا أن ذلك مختص بالإنشاء التكويني وفيه معنى التقدير والتسوية وهذا عام له كما في الآية الكريمة وللتشريعي ايضا كما في قوله تعالى ما جعل الله من بحيرة الاية وأما ما كان فهو إنباء عن ملابسة مفعوله بشيء آخر بأن بكون فيه أوله أو منه أو نحو ذلك ملابسة نصححة لأن يتوسط بينهما شيء من الظروف لغوا كان أو مستقرا لكن لا على أن يكون عمدة في الكلام بل قيدا فيه كما في قوله عز وجل وجعهل بينهما برزخا وقوله تعالى وجعل فيها رواسي وقوله تعالى واجعل لنا من لدنك وليا الآية فإن كل واحد من هذه الظروف إما متعلق بنفس الجعل أو بمحذوف وقع حالا من مفعوله تقدمت عليه لكونه نكرة وايا ما كان فهو قيد في الكلام حتى إذا اقتضى الحال وقوعه عمدة فيه يكون الجعل متعديا إلى اثنين هو ثانيهما كما في قوله تعالى يجعلون أصابعهم في آذانهم وربما يشتبه الأمر فيظن أنا عمدة فيه وهو في الحقيقة قيد بأحد الوجهين كما سلف في قوله تعالى إني جاعل في الأرض خليفة حيث قيل إن الظرف مفعول ثان لجاعل وقد أشير هناك إلى أن الذي يقضي به الذوق السليم وتقتضيه جزالة النظم الكريم أنه متعلق بجاعل أو بمحذوف وقع حالا من المفعول وأن المفعول الثاني هو خليفة وأن الأول محذوف على ما مر تفصيله وجمع الظلمات لظهور كثرة أسبابها ومحالها عند الناس ومشاهدتهم لها على التفصيل وتقديمها على النور لتقدم الإعدام على الملكات مع ما فيه من رعاية حسن المقابلة بين القرينتين وقوله تعالى ثم الذين كفروا بربهم يعدلون معطوف على الجملة السابقة الناطقة بما مر من موجبات اختصاصه تعالى بالحمد المستدعي لاقتصار العبادة عليه كما حقق في تفسير الفاتحة الكريمة مسوق لإنكار ما عليه الكفرة واستبعاده من مخالفتهم لمضمونها واجترائهم على ما يقضي ببطلانه بديهة العقول والمعنى أنه تعالى كمختص باستحقاق الحمد والعبادة باعتبار ذاته وباعتبار ما فصل من شئونه العظيمة الخاصة به الموجبة لقصر الحمد والعبادة عليه ثم هؤلاء الكفرة لا يعملون بموجبه ويعدلون به سبحانه أي يسوون به غيره في العبادة التي هي أقصي غايات الشكر الذي رأسه الحمد مع كون كا ما سواه مخلوقا له غير متصف بشيء من مبادىء الحمد وكلمة ثم لاستبعاد الشرك بعد وضوح ما ذكر من الآيات التكوينية القاضية ببطلانه لا بعد بيانه بالآيات التنويلية والموصول عبارة عن طائفة الكفار جار مجرى الاسم لهام من غير أن يجعل كفرهم بما يجب أن يؤمن به كلا أو بعضا عنوانا للموضوع فإن ذلك مخل باستبعاد ما أسند إليهم من الإشراك والباء متعلقة بيعدلون ووضع الرب موضع ضميرة تعالى لزيادة التشنيع والتقبيح والتقديم لمزيد الاهتمام والمسارعة إلى تحقيق مدار الإنكار والاستبعاد والمحافظة على الفواصل وترك المفعول لظهوره أو لتوجيه الإنكار إلى نفس الفعل يتنزيله منزلة اللازم إيذانا بأنه المدار في الاستبعاد والاستنكار لا خصوصية المفعول هذا هو الحقيق بجزالة التنزيل والخليق بفخامة شأنه الجليل وأما جعل الباء صلة لكفروا على أن يعدلون من العدول والمعنى أن الله حقيق بالحمد على ما خلقه نعمة على العباد ثم الذين كفروا به يعدلون فيكفرون نعمته فيرده أن كفرهم به تعالى لا سيما باعتبار ربوبيته تعالى لهم اشد شناعة وأعظم جناية من عدولهم عن حمده عز وجل ولتحققه مع إغفاله أيضا فجعل أهون الشرين عمدة في الكلام مقصود الإفادة وإخراج أعظمهما مخرج القيد المفروغ عنه مما لا عهد له في الكلام السديد فكيف بالنظم التنزيلي هذا وقد قيل إنه معطوف على خلق السموات والمعنى أنه تعالى خلق ما خلق مما لا يقدر عليه أحد سواه ثم هم يعدلون به سبحانه ما لا يقدر على شيء منه لكن لا على قصد أنه صلة مستقلة ليكون بمنزلة أن يقال الحمد لله الذي عدلوا به بل على أنه داخل تحت الصلة بحيث يكون الكل صلة واحدة كأنه قيل الحمد لله الذي كان منه تلك النعم العظام ثم من الكفرة والكفر وأنت خبير بأن ما ينتظم في سلك الصلة المنبئة عن موجبات حمده
تفسير ابن كثير ج2/ص124
يقول الله تعالى مادحا نفسه الكريمة وحامدا لها على خلقه السماوات والأرض قرارا لعباده وجعل الظلمات والنور منفعة لعباده في ليلهم ونهارهم فجمع لفظ الظلمات ووحد لفظ النور لكونه أشرف كقوله تعالى عن اليمين والشمائل وكما قال في آخر هذه السورة وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ثم قال تعالى ثم الذين كفروا بربهم يعدلون أي ومع هذا كله كفر به بعض عباده وجعلوا له شريكا وعدلا واتخذوا له صاحبة وولدا تعالى الله عز وجل عن ذلك علوا كبيرا
تفسير البغوي ج2/ص83
الحمد لله الذي خلق السموت والأرض قال كعب الأحبار هذه الآية أول آية في التوراة وآخر آية في التوراة قوله وقل الحمد لله الذي لم يتخذ ولدا الآية وقال ابن عباس رضي الله عنهماافتتح الله الخلق بالحمد فقال الحمد لله الذي خلق السموات والأرض وختمه بالحمد فقال وقضي بينهم بالحق أي بين الخلائق وقيل الحمد لله رب العالمين قوله الحمد لله حمد الله نفسه تعليما لعباده أي احمدوا الله الذي خلق السموات والأرض خصهما بالذكر لأنهما أعظم المخلوقات فيما يرى العباد وفيهما العبر والمنافع للعباد وجعل الظلمات والنور والجعل بمعنى الخلق وقال الواقدي كل ما في القرآن من الظلمات والنور فهو الكفر والإيمان إلا في هذه الآية فإنه يريد بهما الليل والنهار وقال الحسن وجعل الظلمات والنور يعني الكفر والإيمان وقيل أراد بالظلمات الجهل والنور العلم وقال قتادة يعني الجنة والنار وقيل معناه خلق الله السموات والأرض وقد جعل الظلمات والنور لأنه خلق السموات والنور قبل السموات والأرض قال قتادة خلق الله السموات قبل الأرض وخلق الظلمة قبل النور والجنة قبل النار وروى عن عبد الله بن عمرو ابن العاص عن النبي صلى الله عليه وسلم قال إن الله تعالى خلق الخلق فى ظلمه ثم ألقى عليهم من نوره فمن أصابه من ذلك النور اهتدى ومن أخطأه ضل ثم الذين كفروا بربهم يعدلون أي ثم الذين كفروا بعد هذا البيان بربهم يعدلون أي يشركون وأصله خلق مساوة الشىء ومنه العدل أي يعدلون بالله غير الله تعالى يقال عدلت هذا بهذا إذا ساويته وبه قال النضر بن شميل الباء بمعنى عن أي عن ربهم يعدلون أي يميلون وينحرفون من العدل قال الله تعالى عينا يشرب بها عباد الله أي منها وقيل تحب قوله ثم الذين كفروا بربهم يعدلون معنى لطيف وهو مثل قول القائل أنعمت عليكم بكذا وتفضلت عليكم بكذا ثم تكفرون
تفسير السعدي ج1/ص250
هذا إخبار عن حمده والثناء عليه بصفات الكمال ونعوت العظمة والجلال عموما وعلى هذه المذكورات خصوصا فحمد نفسه على خلقه السموات والأرض الدالة على كمال قدرته وسعة علمه ورحمته وعموم حكمته وانفراده بالخلق والتدبير وعلى جعله الظلمات والنور وذلك شامل للحسي من ذلك كالليل والنهار والشمس والقمر والمعنوي كظلمات الجهل والشك والشرك والمعصية والغفلة ونور العلم والإيمان واليقين والطاعة وهذا كله يدل دلالة قاطعة أنه تعالى هو المستحق للعبادة وإخلاص الدين له ومع هذا الدليل ووضوح البرهان ثم الذين كفروا بربهم يعدلون به سواه يسوونهم به في العبادة والتعظيم مع أنهم لم يساووا الله في شيء من الكمال وهم فقراء عاجزون ناقصون من كل وجه
تفسير السمرقندي ج1/ص455
قوله تعالى الحمد لله حمد الرب نفسه ودل بصنعه على توحيده الذي خلق السموات والأرض يعني خلق السموات وما فيها من الشمس والقمر والنجوم وخلق الأرض وما فيها وجعل الظلمات والنور يعني خلق الليل والنهار ويقال الكفر والإسلام وقال الضحاك هذه الآية نزلت في شأن المجوس قالوا الله خالق النور والشيطان خالق الظلمة فأنزل الله تعالى إكذابا لقولهم وردا عليهم فقال وجعل الظلمات والنور يعني أن الله واحد لا شريك له وهو الذي خلق السموات والأرض وهو الذي خلق الظلمات والنور ثم الذين كفروا يعني المجوس بربهم يعدلون يعني يشركون ويقال ثم الذين كفروا بربهم يعدلون يعني مشركي مكة بربهم يعدلون يعني يعبدون الأصنام
تفسير الطبري ج7/ص144
يقول تعالى ذكره معجبا خلقه المؤمنين من كفرة عباده ومحتجا على الكافرين إن الإله الذي يجب عليكم أيها الناس حمده هو الذي خلق السماوات والأرض الذي جعل منهما معايشكم وأقواتكم وأقوات أنعامكم التي بها حياتكم فمن السماوات ينزل عليكم الغيث وفيها تجري الشمس والقمر باعتقاب واختلاف لمصالحكم ومن الأرض ينبت الحب الذي به غذاؤكم والثمار التي فيها ملاذكم مع غير ذلك من الأمور التي فيها مصالحكم ومنافعكم بها
والذين يجحدون نعمة الله عليهم بما أنعم به عليهم من خلق ذلك لهم ولكم أيها الناس بربهم الذي فعل ذلك وأحدثه يعدلون يجعلون له شريكا في عبادتهم إياه فيعبدون معه الآلهة والأنداد والأصنام والأوثان وليس منها شيء شركه في خلق شيء من ذلك ولا في إنعامه عليهم بما أنعم به عليهم بل هو المنفرد بذلك كله وهم يشركون في عبادتهم إياه غيره
فسبحان الله ما أبلغها من حجة وأوجزها من عظة لمن فكر فيها بعقل وتدبرها بفهم ولقد قيل إنها فاتحة التوراة
حدثنا سفيان بن وكيع قال ثنا عبد العزيز بن عبد الصمد العمي عن أبي عمران الجوني عن عبد الله بن رباح عن كعب قال فاتحة التوراة فاتحة الأنعام الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض وجعل الظلمات والنور ثم الذين كفروا بربهم يعدلون
حدثنا بن وكيع قال ثنا زيد بن حباب عن جعفر بن سليمان عن أبي عمران الجوني عن عبد الله بن رباح عن كعب مثله
وزاد فيه وخاتمة التوراة خاتمة هود
يقال من مساواة الشيء بالشيء عدلت هذا بهذا إذا ساويته به عدلا
وأما في الحكم إذا أنصفت فيه فإنك تقول عدلت فيه أعدل عدلا
وبنحو الذي قلنا في تأويل قوله يعدلون قال أهل التأويل
ذكر من قال ذلك حدثني محمد بن عمرو قال ثنا أبو عاصم قال ثنا عيسى عن بن أبي نجيح عن مجاهد يعدلون قال يشركون
ثم اختلف أهل التأويل فيمن عني بذلك فقال بعضهم عني به أهل الكتاب
ذكر من قال ذلك حدثنا بن حميد قال ثنا يعقوب القمى عن جعفر بن أبي المغيرة عن بن أبزى قال جاءه رجل من الخوارج يقرأ عليه هذه الآية الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض وجعل الظلمات والنور ثم الذين كفروا بربهم يعدلون قال له أليس الذين كفروا بربهم يعدلون قال بلى قال وانصرف عنه الرجل فقال له رجل من القوم يا بن أبزى إن هذا قد أراد تفسير هذه غير هذا إنه رجل من الخوارج فقال ردوه علي فلما جاءه قال هل تدري فيمن نزلت هذه الآية قال لا
قال إنها نزلت في أهل الكتاب اذهب ولا تضعها على غير حدها
وقال آخرون بل عنى بها المشركون من عبدة الأوثان
ذكر من قال ذلك حدثنا بشر بن معاذ قال ثنا يزيد بن زريع قال ثنا سعيد عن قتادة ثم الذين كفروا بربهم يعدلون قال هؤلاء أهل صراحة
حدثنا محمد بن الحسين قال ثنا أحمد بن مفضل قال ثنا أسباط عن السدي ثم الذين كفروا بربهم يعدلون قال هم المشركون
حدثني يونس قال أخبرنا بن وهب قال قال بن زيد في قوله ثم الذين كفروا بربهم يعدلون قال الآلهة التي عبدوها عدلوها بالله قال وليس بالله عدل ولا ند وليس معه آلهة ولا اتخذ صاحبة ولا ولدا
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب عندي أن يقال إن الله تعالى أخبر أن الذين كفروا بربهم يعدلون فعم بذلك جميع الكفار ولم يخصص منهم بعضا دون بعض فجميعهم داخلون في ذلك يهودهم ونصاراهم ومجوسهم وعبدة الأوثان منهم ومن غيرهم من سائر أصناف الكفر
تفسير القرطبي ج6/ص384
قوله تعالى الحمد لله بدأ سبحانه فاتحتها بالحمد على نفسه وإثبات الألوهية أي أن الحمد كله له فلا شريك له فإن قيل فقد افتتح غيرها بالحمد لله فكان الاجتزاء بواحدة يغني عن سائره فيقال لأن لكل واحدة منه معنى في موضعه لا يؤدي عنه غيره من أجل عقده بالنعم المختلفة وأيضا فلما فيه من الحجة في هذا الموضع على الذين هم بربهم يعدلون وقد تقدم معنى الحمد في الفاتحة الثانية قوله تعالى الذي خلق السماوات والأرض أخبر عن قدرته وعلمه وإرادته فقال الذي خلق أي اخترع وأوجد وأنشأ وابتدع والخلق يكون بمعنى الاختراع ويكون بمعنى التقدير وقد تقدم وكلاهما مراد هنا وذلك دليل على حدوثهما فرفع السماء بغير عمد وجعلها مستوية من غير أود وجعل فيها الشمس والقمر آيتين وزينها بالنجوم وأودعها السحاب والغيوم علامتين وبسط الأرض وأودعها الأرزاق والنبات وبث فيها من كل دابة آيات وجعل فيها الجبال أوتادا وسبلا فجاجا وأجرى فيها الأنهار والبحار وفجر فيها العيون من الأحجار دلالات على وحدانيته وعظيم قدرته وأنه هو الله الواحد القهار وبين بخلقه السماوات والأرض أنه خالق كل شيء الثالثة خرج مسلم قال حدثني سريج بن يونس وهارون بن عبد الله قالا حدثنا حجاج بن محمد قال قال بن جريج أخبرني إسماعيل بن أمية عن أيوب بن خالد عن عبد الله بن رافع مولى أم سلمة عن أبي هريرة قال أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدي فقال خلق الله عز وجل التربة يوم السبت وخلق فيها الجبال يوم الأحد وخلق الشجر يوم الاثنين وخلق المكروه يوم الثلاثاء وخلق النور يوم الأربعاء وبث فيها الدواب يوم الخميس وخلق آدم عليه السلام بعد العصر من يوم الجمعة في آخر الخلق في آخر ساعة من ساعات الجمعة فيما بين العصر إلى الليل
قلت أدخل العلماء هذا الحديث تفسيرا لفاتحة هذه السورة قال البيهقي وزعم أهل العلم بالحديث أنه غير محفوظ لمخالفة ما عليه أهل التفسير وأهل التواريخ وزعم بعضهم أن إسماعيل بن أمية إنما أخذه عن إبراهيم بن أبي يحيى عن أيوب بن خالد وإبراهيم غير محتج به وذكر محمد بن يحيى قال سألت علي بن المديني عن حديث أبي هريرة خلق الله التربة يوم السبت فقال علي هذا حديث مدني رواه هشام بن يوسف عن بن جريج عن إسماعيل بن أمية عن أيوب بن خالد عن أبي رافع مولى أم سلمة عن أبي هريرة قال أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدي قال علي وشبك بيدي إبراهيم بن أبي يحيى فقال لي شبك بيدي أيوب بن خالد وقال لي شبك بيدي عبد الله بن رافع وقال لي شبك بيدي أبو هريرة وقال لي شبك بيدي أبو القاسم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال خلق الله الأرض يوم السبت فذكر الحديث بنحوه قال علي بن المديني وما أرى إسماعيل بن أمية أخذ هذا الأمر إلا من إبراهيم بن أبي يحيى قال البيهقي وقد تابعه على ذلك موسى بن عبيدة الربذي عن أيوب بن خالد إلا أن موسى بن عبيدة ضعيف وروي عن بكر بن الشرود عن إبراهيم بن أبي يحيى عن صفوان بن سليم عن أيوب بن خالد وإسناده ضعيف عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال إن في الجمعة ساعة لا يوافقها أحد يسأل الله عز وجل فيها شيئا إلا أعطاه إياه قال فقال عبد الله بن سلام إن الله عز وجل ابتدأ الخلق فخلق الأرض يوم الأحد ويوم الاثنين وخلق السماوات يوم الثلاثاء ويوم الأربعاء وخلق الأقوات وما في الأرض يوم الخميس ويوم الجمعة إلى صلاة العصر وما بين صلاة العصر إلى أن تغرب الشمس خلق آدم خرجه البيهقي قلت وفيه أن الله تعالى بدأ الخلق يوم الأحد لا يوم السبت وكذلك تقدم في البقرة عن بن مسعود وغيره من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وتقدم فيها الاختلاف أيما خلق أولا الأرض أو السماء مستوفى والحمد لله
الرابعة قوله تعالى وجعل الظلمات والنور ذكر بعد خلق الجواهر خلق الأعراض لكون الجوهر لا يستغنى عنه وما لا يستغني عن الحوادث فهو حادث والجوهر في اصطلاح المتكلمين هو الجزء الذي لا يتجزأ الحامل للعرض وقد أتينا على ذكره في الكتاب الأسني في شرح أسماء الله الحسنى في اسمه الواحد وسمى العرض عرضا لأنه يعرض في الجسم والجوهر فيتغير به من حال إلى حال والجسم هو المجتمع وأقل ما يقع عليه اسم الجسم جوهران مجتمعان وهذه الاصطلاحات وإن لم تكن موجودة في الصدر الأول فقد دل عليها معنى الكتاب والسنة فلا معنى لإنكارها وقد استعملها العلماء واصطلحوا عليها وبنوا عليها كلامهم وقتلوا بها خصومهم كما تقدم في البقرة واختلف العلماء في المعنى المراد بالظلمات والنور فقال السدي وقتادة وجمهور المفسرين المراد سواد الليل وضياء النهار وقال الحسن الكفر والإيمان قال بن عطية وهذا خروج عن الظاهر قلت اللفظ يعمه وفي التنزيل أومن كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات والأرض هنا اسم للجنس فإفرادها في اللفظ بمنزلة جمعها وكذلك والنور ومثله ثم يخرجكم طفلا غافر وقال الشاعر كلوا في بعض بطنكم تعفوا وقد تقدم وجعل هنا بمعنى خلق لا يجوز غيره قاله بن عطية قلت وعليه يتفق اللفظ والمعنى في النسق فيكون الجمع معطوفا على الجمع والمفرد معطوفا على المفرد فيتجانس اللفظ وتظهر الفصاحة والله أعلم وقيل جمع الظلمات ووحد النور لأن الظلمات لا تتعدى والنور يتعدى وحكى الثعلبي أن بعض أهل المعاني قال جعل هنا زائدة والعرب تزيد جعل في الكلام كقول الشاعر وقد جعلت أرى الاثنين أربعة والواحد اثنين لما هدني الكبر قال النحاس جعل بمعنى خلق وإذا كانت بمعنى خلق لم تتعد إلا إلى مفعول واحد وقد تقدم هذا المعنى ومحامل جعل في البقرة مستوفى الخامسة قوله تعالى ثم الذين كفروا بربهم يعدلون ابتداء وخبر والمعنى ثم الذين كفروا يجعلون لله عدلا وشريكا وهو الذي خلق هذه الأشياء وحده قال بن عطية ف ثم دالة على قبح فعل الكافرين لأن المعنى أن خلقه السماوات والأرض قد تقرر وآياته قد سطعت وإنعامه بذلك قد تبين ثم بعد ذلك كله عدلوا بربهم فهذا كما تقول يا فلان أعطيتك وأكرمتك وأحسنت إليك ثم تشتمني ولو وقع العطف بالواو في هذا ونحوه لم يلزم التوبيخ كلزومه بثم والله أعلم
تفسير النسفي ج1/ص312
الحمد لله تعليم اللفظ والمعنى مع تعريض الاستغناء أى الحمد الله و إن لم تحمدوه الذي خلق السماوات والأرض جمع السموات لانها طباق بعضها فوق بعض و الأرض و إن كانت سبعة عند الجمهور فليس بعضها فوق بعض بل بعضها موال لبعض جعل يتعدى إلى مفعول واحد إذا كان بمعنى أحدث وأنشأ كقوله وجعل الظلمات والنور و إلى مفعولين إن كان بمعنى صبر كقوله وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثا وفيه رد قول الثنوية بقدم النور والظلمة وأفرد النور لارادة الجنس و لأن ظلمة كل شيء تختلف باختلاف ذلك الشئ نظيره ظلمة الليل وظلمة البحر وظلمة الموضع المظلم يخالف كل واحد منها صاحبه والنور ضرب واحد لا يختلف كما تختلف الظلمات وقدم الظلمات لقوله عليه السلام خلق الله خلقه فى ظلمة ثم رش عليهم من نوره فمن أصابه ذلك النور إهتدى اهتدى ومن أخطأه ضل ثم الذين كفروا بعد هذا البيان بربهم يعدلون يساوون به الأوثان تقول عدلت هذا بذا أى ساويته به والباء فى بربهم صلة للعدل لا للكفر أو ثم الذين كفروا بربهم يعدلون عنه أى يعرضون عنه فتكون الباء صلة للكفر وصلة يعدلون أى عنه محذوفة وعطف ثم الذين كفروا على الحمد لله على معنى أن الله حقيق بالحمد على ما خلق لأنه ما خلقه إلا نعمة ثم الذين كفروا به يعدلون فيكفرون نعمته أو على خلق السموات على معنى أنه خلق ما خلق مما لا يقدر عليه أحد سواه ثم هم يعدلون به مالا يقدر على شيء منه ومعنى ثم استبعاد أن يعدلوا به بعر وضوح آيات قدرته
تفسير الواحدي ج1/ص344
الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض وجعل الظلمات والنور وخلق الليل والنهار ثم الذين كفروا بعد قيام الدليل على وحدانيته بما ذكر من خلقه بربهم يعدلون الحجارة والأصنام فيعبدونها معه
روح المعاني – الألوسي ج7/ص76
كما أخرج ابو عبيد والبيهقي وغيرهما عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وروى ابن مردويه والطبراني عنه أنها نزلت بمكة ليلا جملة واحدة وروى خبر الجملة أبو الشيخ عن أبي بن كعب مرفوعا الى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم واخرج النحاس في ناسخه عن الحبر أنها مكية إلا ثلاث آيات منها فانها نزلت بالمدينة قل تعالوا أتل إلى تمام الآيات الثلاث وأخرج ابن راهويه في مسنده وغيره عن شهر بن حوشب أنها مكية إلا آيتين قل تعالوا أتل والتي بعدها وأخرج ابو الشيخ أيضا عن الكلبي وسفيان قالا نزلت سورة الأنعام كلها بمكة إلا آيتين نرلتا بالمدينة في رجل من اليهود وهو الذي قال ما أنزل الله على بشر من شيء الآية وأخرج ابن المنذر عن أبي جحيفة نزلت سورة الأنعام كلها بمكة إلا ولو أننا نزلنا إليهم الملائكة
فانهاا مدنية وقال غير واحد كلها مكية إلا ست آيات وما قدروا الله حق قدره إلى تمام ثلاث آيات وقل تعالوا أتل إلى آخر الثلاث وعدة آياتها عند الكوفيين مائة وخمسة وستون وعند البصريين والشاميين ست وستون وعند الحجازيين سبع وستون وقد كثرت الأخبار بفضلها فقد أخرج الحاكم وصححه والبيهقي في الشعب والاسماعيلي في معجمه عن جابر قال لما نزلت سورة الانعام سبح رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال عليه الصلاة والسلام لقد شيع هذ السورة من الملائكة ما سد الأفق وخبر تشييع الملائكة لها رواه جمع من المحدثين إلا أن منهم من روى أن المشيعين سبعون ألفا ومنهم من روى أنهم كانوا أقل ومنهم من روى أنهم كانوا أكثر وأخرج الديلمي عن ابن مسعود قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من صلى الفجر بجماعة وقعد في مصلاه وقرأ ثلاث آيات من أول سورة الأنعام وكل الله به سبعين ملكا يسبحون الله تعالى ويستغفرون له إلى يوم القيامة
وأخرج أبو الشيخ عن حبيب بن محمد العابد قال من قرأ ثلاث ءايات م أول الأنعام إلى قوله تعالى تكسبون بعث الله تعالى له سبعين ألف ملك يدعون له إلى يوم القيامة وله مثل أعمالهم فإذا كان يوم القيامة ادخله الجنة وسقاه من السلسبيل وغسله من الكوثر وقال أنا ربك حقا وأنت عبدي إلى غير ذلك من الأخبار وغالبا في هذا المطلب ضعيف وبعضها موضوع كما لا يخفى على من نقر عنها ولعل الأخبار بنزول هذه السورة جملة أيضا كذلك وحكى الامام اتفاق الناس على القول بنزولها جملة ثم استشكل ذلك بأنه كيف يمكن أن يقال حينئذ في كل مرة من آياتها إن سبب نرولها الأمر الفلاني مع أنهم يقولونه والقول بأن مراد القائل بذلك عدم تخلل نزول شيء من آيات سورة أخرى بين أوقات نزول آياتها مما لا تساعده الظواهر بل في الأخبار ما هو صريح فيما يأباه والقول بأنها نزلت مرتين دفعة وتدريجا خلاف الظاهر ولا دليل عليه ويؤيد ما أشرنا إليه من ضعف الأخبار بالنزول جملة ما قاله ابن الصلاح في فتاويه الحديث الوارد في أنها نرلت جملة ورويناه من طريق أبي بن كعب ولم نر له سندا صحيحا وقد روي ما يخالفه أنتهى ومن هذا يعلم ما في دعوى الامام اتفاق الناس على القول بنزولها جملة فتدبر ووجه مناسبتها لآخر المائدة على ما قال بعض الفضلاء أنها افتتحت بالحمد وتلك اختتمت بفصل القضاء وهما متلامازمان كما قال سبحانه وقضي بينهم بالحق وقيل الحمد لله رب العالمين
وقال الجلال السيوطي في وجه المناسبة أنه تعالى لما ذكر في آخر المائدة لله ملك السموات والأرض وما فيهن على سبيل الاجمال افتتح جل شأنه هذه السورة بشرح ذلك وتفصيله فبدأ سبحانه بذكر خلق السموات والأرض وضم تعالى إليه أنه جعل الظلمات والنور وهو بعض ما تضمنه ما فيهن ثم ذكر عز أسمه أنه خلق النوع الأنساني وقضى له أجلا وجعل له أجلا آخر للبعث وأنه جل جلاله منشيء القرون قرنا بعد قرن ثم قال تعالى قل لمن ما في السموات الخ فأثبت له ملك جميع المظروفات لظرف المكان ثم قال عز من قائل وله ما سكن في الليل والنهار فأثبت أنه جل وعلا ملك جميع المظروفات لظرف الزمان ثم ذكر سبحانه خلق سائر الحيوان من الدواب والطير ثم خلق النوم واليقظة والموت ثم أكثر عز وجل في أثناء السورة من الانشاء والخلق لما فيهن من النيرين والنجوم وفلق الاصباح وفلق الحب والنوى وانزال الماء و اخراج النبات والثمار بأنواعها وانشاء جنات معروشات وغير معروشات إلى غير ذلك مما فيه تفصيل ما فيهن وذكر عليه الرحمة وجها آخر في المناسبة أيضا وهو أنه سبحانه لما ذكر في سورة المائدة يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا ما أحل الله لكم الخ وذكر جل شأنه بعده ما جعل الله من بحيرة الخ فاخبر عن الكفار أنهم حرموا أشياء مما رزقهم الله تعالى افتراء على الله عز شأنه وكان القصد بذلك تحذير المؤمنين أن يحرموا شيئا من ذلك فيشابهوا الكفار في صنعهم وكان ذكر ذلك على سبيل الايجاز ساق جل جلاله هذه السورة لبيان حال الكفار في صنعهم فأتى به على الوجه الأبين والنمط الأكمل ثم جادلهم فيه واقام الدلائل على بطلانه وعارضهم وناقضهم إلى غير ذلك مما اشتملت عليه القصة فكانت هذه السورة شرحا لما تضمنته تلك السورة من ذلك على سبيل الاجمال وتفصيلا وبسطا وإتماما واطنابا وافتتحت بذكر الخلق والملك لأن الخالق والمالك هو الذي له التصرف في ملكه ومخلوقاته اباحة ومنعا وتحريما وتحليلا فيجب أن لا يعترض عليه سبحانه بالتصرف في ملكه ولهذ السورة أيضا اعتلاق من جهة بالفاتحة لشرحها اجمال قوله تعالى رب العالمين وبالبقرة لشرحها اجمال قوله سبحانه الذي خلقكم والذين من قبلكم وقوله عز اسمه الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا وبآل عمران من جهة تفصيلا لقوله جل وعلا والانعام والحرث وقوله تعالى كل نفس ذائقة الموت الخ وبالنساء من جهة ما فيها من بدء الخلق والتقبيح لما حرموه على أزواجهم وقتل البنات وبالمائدة من حيث اشتمالها على الأطعمة بأنواعها وقد يقال إنه لما كان قطب هذه السورة دائرا على اثبات الصانع ودلائل التوحيد حتى قال ابو اسحاق الاسفرايني إن في سورة الانعام كل قواعد التوحيد ناسبت تلك السورة من حيث أن فيها ابطال ألوهية عيسى عليه الصلاة والسلام وتوبيخ الكفرة على اعتقادهم الفاسد وافترائهم الباطل هذا ثم أنه لما كانت نعمه سبحانه وتعالى مما تفوت الحصر ولا يحيط بها نطاق العد إلا أنها ترجع اجمالا إلى إيجاد وإبقاء في النشأة الأولى وإيجاد وإبقاء في النشأة الآخرة وأشير في الفاتحة التي هي أم الكتاب إلى الجميع وفي الأنعام إلى الإيجاد الأول وفي الكهف إلى الابقاء الأول وفي سبأ إلى الايجاد الثاني وفي فاطر إلى الابقاء الثاني ابتدئت هذه الخمس بالتحميد ومن اللطائف أنه سبحانه وتعالى جعل في كل ربع من كتابه الكريم المجيد سورة مفتتحة بالتحميد فقال عز من قائل بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله الذي خلق السموات والأرض جملة خبرية أو إنشائية وعين بعضهم الأول لما في حملها على الانشاء من إخراج الكلام على معناه الوضعي من غير ضرورة بل لما يلزم على كونها إنشائية من انتفاء الاتصاف بالجميل قبل حمد الحامد ضرورة أن الانشاء يقارن معناه لفظه في الوجود وآخرون الثاني لأنه لو كانت جملة الحمد اخبارا يلزم أن لا يقال لقائل الحمد لله حامد إذ لا يصاغ للمخبر عن غيره لغة من متعلق اخباره اسم قطعا فلا يقال لقائل زيد له القيام قائم واللازم باطل فيبطل الملزوم ولا يلزم هذا على تقدير كونها إنشائية فان الانشاء يشتق منه اسم فاعل صفة للمتكلم به فيقال لمن قال بعت بائع واعترض بأنه لا يلزم من كل إنشاء في ذلك وإلا لقيل لقائل ضرب ضارب والله تعالى شأنه القائل والوالدات يرضعن أولادهن مرضع بل إنما يكون ذلك إذا كان إنشاء الحال من أحوال المتكلم كما في صيغ العقود ولا فرق حينئذ بينه وبين الخبر فيما ذكر والذي عليه المحققون جواز الاعتبارين في هذه الجملة وأجابوا عما يلزم من المحذور نعم رجح هنا اعتبار الخبرية لما أن السورة نزلت لبيان التوحيد وردع الكفرة والاعلام بمضمونها على وجه الخبرية يناسب المقام وجعلها لانشاء الثناء لا يناسبه وقيل إن اعتبار خبريتها هنا ليصح عطف ما بعد ثم الآتي عليها ومن اعتبر الانشائية ولم يجوز عطف الانشاء على الاخبار جعل العطف على صلة الموصول أو على الجملة الانشائية يجعل المعطوف لانشاء الاستبعاد والتعجب ولا يخفى ما في ذلك من التكلف والخروج عن الظأهر وفي تعليق الحمد أولا باسم الذات ووصفه تعالى ثانيا بما وصف به سبحانه تنبيه على تحقق الاستحقاقين تحقق استحقاقه عز وجل الحمد باعتبار ذاته جل شأنه وتحقق استحقاقه سبحانه وتعالى باعتبار الانعام المؤذن به ما في حيز الموصول الواقع صفة ومعنى استحقاقه سبحانه وتعالى الذاتي عند بعض استحقاقه جل وعلا الحمد بجميع أوصافه وأفعاله وهو معنى قولهم إنه تعالى يستحق العبادة لذاته وأنكر هذا صحة توجه التعظيم والعبادة إلى الذات من حيث هي
وقد صرح الامام في شرح الاشارة عند ذكر مقامات العارفين أن الناس في العبادة ثلاث طبقات فالأولى في الكمال والشرف الذين يعبدونه سبحانه وتعالى لذاته لا لشيء آخر والثانية وهي التي تلي الاولى في الكمال الذين يعبدونه لصفة من صفاته وهي كونه تعالى مستحقا للعبادة والثالثة وهي آخر درجات المحققين الذين يعبدونه لتكمل نفوسهم في الانتساب إليه ولا يشكل تصور تعظيم الذات من حيث هي لأنه كما قال الشهاب لو وقع ذلك ابتداء قبل التعقل بوجوه الكمال كان مشكلا أما بعد معرفة المحمود جل جلاله بسمات الجمال وتصوره بأقصى صفات الكمال فلا بدع أن يتوجه إلى تمجيده تعالى وتحميده عز شأنه مرة أخرى بقطع النظر عما سوى الذات بعد الصعود بدجات المشاهدات ولذا قال أهل الظأهر صفاته لم تزد معرفة لكنها لذة ذكرناها فما بالك بالعارفين الغارقين في بحار العرفان وهم القوم كل القوم والذي حققه السالكوتي وجرينا عليه في الفاتحة أن الاستحقاق الذاتي ما لا يلاحظ معه خصوصية صفة حتى الجميع لا ما يكون الذات البحت مستحقا له فان استحقاق الحمد ليس إلا على الجميل وسمي ذاتيا لملاحظة الذات فيه من غير اعتبار خصوصية صفة أو لدلالة اسم الذات عليه أو لأنه لما لم يكن مسندا الى صفة من الصفات المخصوصة كان مسندا إلى الذات وذكر بعض محققي المتأخرين كلاما في هذا المقام رد به فيما عنده على كثير من العلماء الأعلام وحاصله أن اللام الجارة في لله لمطلق الاختصاص دون الاختصاص القصري على التعيين بدليل أنهم قالوا في مثل له الحمد إن التقديم للإختصاص القصري فلو أن اللام الجارة تفيده أيضا لما بقي فرق بين الحمد لله وله الحمد غير كون الثاني أو كد من الاول في إفادة القصر والمصرح به التفرقة بافادة أحدهما القصر دون الآخر وان الاختصاصات على انحاء وتعيين بعضها موكول إلى العلة التي يترتب عليها الحكم وتجعل محمودا عليه غالبا وغيرها من القرائن فاذا رأيت الحكم على أوصافه تعالى المختصة به سبحانه وتعالى وجب كون الحمد مقصورا عليه تعالى فيحمل الحكم المعلل على القصر ليطابق المعلول علته ومع ذلك إذا كانت الأوصاف المختصة به عن وجل مما يدل على كونه عز شأنه منعما على عباده وجب كون الحمد حقا لله تعالى واجبا على عباده سبحانه فيحمل الحكم المعلل على الاستيجاب للتطابق أيضا وإذا لم يعلل الحكم بشيء أو قطع النظر عن العلة التي رتب عليها الحكم فانما يثبت في الحكم أدنى مراتب الاختصاص الذي كونه تعالى حقيقا بالحمد مجردا عن القصر والاستيجاب ويعضد ما أشير اليه اختلاف عبارات العلامة البيضاوي في بيان مدلولات جمل الحمد وأن المراد في الاستيجاب الذي جعله بعض النحاة من معاني اللام ما هو بمنزلة مطلق الاختصاص الذي قرره لا المعنى الذي رمز إليه فعلى هذا يكون مفهوم جملة الحمد لله فيما نحن فيه أنه تعالى حقيق بالحمدولا دلالة فيها من حيث هي هي مع قطع النظر عن المحمود عليه الذي هو علة الحكم على قصر الحقيقة بالحمد عليه سبحانه وتعالى ولا على بلوغها حد الاستيجاب نعم في ترتيب الحكم على ما في حيز الصفة تنبيه على كون الحمد حقا لله تعالى واجبا على عباده مختصا به عز شأنه مقصورا عليه سبحانه حيث أن ترتيب الحكم كما قالوا على الوصف يشعر بمنطوقه بعلية الوصف للحكم وبمفهومه بانتفاء الحكم عمن ينتفي عنه الوصف ثم قال وبالجملة إن جملة الحمد لله مدعي ومدلول
وقوله سبحانه وتعالى الذي خلق الخ دليل وعلة وليس هناك إلا حمد واحد معلل لما في حيز الوصف لا حمد معلل بالذات المستجمع لجميع الصفات أو بالذات البحت اولا على ما قيل وبالوصف ثانيا حتى يكون بمثابة حمدين باعتبار العلتين لأن لفظ الجلالة علم شخصي ولا دلالة له على الأوصاف بأحدى الدلالات الثلاث فكيف يكون محمودا عليه وعلة لاستحقاق الحمد ولذلك لا يكاد يقع الحكم باستحقاق الحمد إلا معلالا بالأمور الواضحة الدالة على صفاته سبحانه وتعالى الجليلة وأفعاله الجميلة ولا يكتفى بأسم الذات اللهم الا في تسبيحات المؤمنين وتحميداتهم لا في محاجة المنكرين التي نحن بصدد بيانها وأيضا اقتضاء الذات البحت من حيث هو الذات ماذا يفيد في الاحتجاج على القوم الذين عامتهم لا يبصرون ولا يسمعون إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل وأما ما يقال إنما قيل الحمد لله بذكر اسم الذات المستجمع لجميع الصفات ولم يقل للعالم او للقادر الى غير ذلك من الأسماء الدالة على الجلالة أو الاكرام لئلا يتوهم اختصاص الحمد بوصف دون وصف فكلام مبني على ما ظهر لك فساده من كون الذات محمودا عليه وقد يقال إن ذكر أسم الذات ليس إلا لأن المشركين المحجوجين الجهال لا يعرفونه تعالى ولا يذكرونه فيما بينهم ولا عند المحاجة الا بأسمه سبحانه العليم لا بالصفات كما يدل على ذلك أنه تحكى أجوبتهم بذكر ذلك الأسم الشريف في عامة السؤالات إلا ما قل حيث كان جوابهم فيه بغير اسم الذات كقوله تعالى لقولن خلقهن العزيز العليم على أن البعض جعل هذا لازم مقولهم وما يدل عليه إجمالا أقيم مقامه فكأنهم قالوا الله كما حكى عنهم في مواضع وحينئذ فكأنه قيل الاله الذي يعرفونه ويذكرونه بهذا الاسم هو المستحق للحمد لكونه خالق السموات والارض ولكونه كذا وكذا وإذا عرفت أن الذات لا يلائم أن يكون محمودا عليه وإنما الحقيق لأن يكون محمودا عليه هو الصفات وأن ما يترتب عليه الحمد في كل موضع بعض الصفات بحسب اقتضاء المقام لا جميع الصفات عرفت أن من ادعى أن ترتيب الحمد على بعض الصفات دون بعض يوهم اختصاص استحقاق الحمد بوصف دون وصف يلزم عليه أن يقع في الورطة التي فر منها كما لا يخفى
فالحق أن المحمود عليه هو الوصف الذي رتب عليه استحقاق الحمد وأن تخصيص بعض الاوصاف لأن يترتب عليه استحقاق الحمد في بعض المواقع إنما هو باقتضاء ذلك المقام إياه فان قلت فما الرأي في الحمد باعتبار الذات البحت او باعتبار استجماعه جميع الصفات على ما قيل هل له وجه أم لا قلت اما كون الذات الصرف محمودا عليه وكذا كون الذات محمودا عليه باستجماعه جميع الصفات في أمثال هذه المواضع التي نحن فيها فلا وجه له أما ما ذكروه في شرح خطب بعض الكتب من أن الحمد باعتبار الذات المستجمع لجميع الصفات فلعل منشأه هو أن الحمد لما اقتضى وصفا جميلا صالحا لأن يترتب عليه الحكم باستحقاق الحمد ويكون محمودا عليه فحيث لم يذكر معه وصف كذلك ولم يدل عليه قرينة بل اكتفى بذكر الذات المتصف بجميع الصفات الجميلة ثبت اعتبار الوصف الجميل هناك اقتضاء ثم من أجل تعيين البعض بالاعتبار دون البعض الآخر لا يخلوا عن لزوم الترجيح بلا مرجح يلزم اعتبار بعض الصفات الجميلة برمتها فيكون الحمد باعتبار جميعها وحيث ذكر معه وصف جميل صالح لأن يكون محمودا عليه ودل عليه بعينه قرينة استغنى عن ذلك الاعتبار لأن المصير إليه كان عن ضرورة ولا ضرورة حينئذ كما لا يخفى ومن لم يهتد إلى الفرق بين ما وقع في القرآن المجيد لمقاصد وما وقع في خطب الكتب لمجرد التيمن ولا إلى الفرق بين ما ذكر فيه المحمود عليه صريحا أو دلت عليه بعينه قرينة وبين ما لم يكن كذلك ركب متن عمياء وخبط خبط عشواء فخلط عشواء فخلط مقتضيات بعض المقامات ببعض ولم يدر أن كلام الله تعالى على أي شرف وكلام غيره في أي واد
وقصارى الكلام أن ترتب الحكم الذي تضمنته جملة الحمد لله هنا على الوصف المختص به سبحانه من خلق السموات والأرض وما عطف عليه يفيد الاختصاص القصري على الوجه الذي تقدم ويشير إلى ذلك كلام العلامة البيضاوي في تفسير الآية لمن أمعن النظر إلا أن ما ذكره عليه الرحمة في أول سبأ من الفرق بين الحمد لله الذ له ما في السموات وما في الأرض وبين وله الحمد في الآخرة مما محصله أن جملة له الحمد جيء بها بتقديم الصلة ليفيد القصر لكون الانعام بنعم الآخرة مختصا به تعالى بخلاف جملة الحمد لله الذي له الخ فانها لم يجيء بها بتقديم الصلة حتى لا يفيد القصر لعدم كون الانعام مختصا به تعالى مطلقا بحيث لا مدخل فيه للغير إذ يكون بتوسط الغير فيستحق ذلك لغير الحمد بنوع استحقاق بسبب وساطته آب عنه إذ حاصل ما ذكره في تلك السورة هو أنه لا قصر في جملة الحمد لله الذي له الخ بخلاف جملة له الحمد 9 وحاصل ما أشار اليه في هذه وكذا الفاتحة هو أن جملة الحمد لله إذا رتب على الأوصاف المختصة كالخلق والجعل المذكورين مفيد للقصر أيضا غاية ما في البال أن طريق إفادة القصر في البابين متغاير ففي إحداهن تقديم الصلة وفي الأخرى مفهوم العلة فتدبر ذاك والله تعالى يتولى هداك وجمع سبحانه السموات وأفرد الأرض مع أنها على ما تقتضيه النصوص المتعددة متعددة أيضا والمؤاخاة بين الألفاظ من محسنات الكلام فاذا جمع أحد المتقابلين أو نحوهما ينبغي أن يجمع الآخر عندهم ولذا عيب على أبي نواس قوله ومالك فاعلمن فينا مقالا إذا استكملت آجالا ورزقا حيث جمع وأفرد إذ جمع لنكتة سوغت العدول عن ذلك الأصل وهي الإشارة إلى تفاوتهما في الشرف فجمع الأشرف اعتناء بسائر أفراده وأفرد غير الأشرف وأشرفية السماء لأنها محل الملائكة المقدسين على تفاوت مراتبهم وقبلة الدعاء ومعراج الأرواح الطاهرة ولعظمها وإحاطتها بالأرض على القول بكريتها الذاهب اليه بعض منا وعظم آيات الله فيها ولأنها لم يعص الله تعالى فيها أصلا وفيها الجنة التي هي مقر الأحباب ولغير ذلك والأرض وإن كانت دار تكليف ومحل الأنبياء عليهم الصلاة والسلام فليس ذلك إلا للتبليغ وكسب ما يجعلهم متأهلين للاقامة في حضيرة القدس لأنها ليست بدار قرار وخلق أبدان الأنبياء عليهم الصلاة والسلام منها ودفنهم فيها مع كون أرواحهم التي هي منشأ الشرف ليست منها ولا تدفن فيها لا يدل على أكثر من شرفها وأما أنه يدل على أشرفيتها فلا يكاد يسلم لأحد وكذا كون الله تعالى وصف بقاعا منها بالبركة لا يدل على أكثر مما ذكرنا ولهذا الشرف أيضا قدمت على الأرض في الذكر وقيل إن جمع السموات وإفراد الأرض لأن السماء جارية مجرى الفاعل والأرض جارية مجرى القابل فلو كانت السماء واحدة لتشابه الأثر وهو يخل بمصالح هذا العالم وأما الأرض فهي قابلة والقابل الواحد كاف في القبول
وحاصله أن اختلاف الآثار دل على تعدد السمماء دلالة عقلية والأرض وإن كانت متعددة لكن لا دليل عليه من جهة العقل فلذلك جمعها دون الأرض
واعترض بأنه على ما فيه ربما يقتضي العكس وقال بعضهم إنه لا تعدد حقيقيا في الأرض ولهذا لم تجمع وأما التعدد الوارد في بعض الأخبار نحو قوله صلى الله عليه وسلم من غصب قيد شبر من أرض طوقه إلى سبع أرضين فمحمول على التعدد باعتبار الأقاليم السبعة وكذا يحمل ما أخرجه أبو الشيخ والترمذي عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أنه صلى الله عليه وسلم قال هل تدرون ما هذه هذه أرض هل تدرون ما تحتها قالوا الله تعالى ورسوله أعلم قال أرض أخرى وبينهما مسيرة خمسمائة عام حتى عد سبع أرضين بين كل أرضين خمسمائة عام والتحتية لا تأبى ذلك فإن الأرض كالسماء كروية وقد يقال للشيء إذا كان بعد آخر هو تحته والمراد من قوله صلى الله عليه وسلم بينهما خمسمائة عام أن القوس من إحدى السموات المسامت لأول أقليم وأول الآخر خمسمائة عام ولا شك أن ذلك قد يزيد على هذا المقدار وكثيرا ما يقصد من العدد التكثير لا الكم المعين وقوله تعالى الله الذي خلق سبع سموات ومن الأرض مثلهن محمول على المماثلة في السبعة الموجودة في الأقاليم لا على التعدد الحقيقي ولا يخفى أن هذا من التكلف الذي لم يدع اليه سوى اتهام قدرة الله تعالى وعجزه سبحانه عن أن يخلق سبع أرضين طبق ما نطق به ظاهر النص الوارد عن حضرة أفصح من نطق بالضادوأزال بزلال كلامه الكريم أوام كل صاد وحمل المماثلة في الآية ايضا على المماثلة التي زعمها صاحب القيل خلاف الظاهر ولعل النوبة تفضي إن شاء الله تعالى إلى تتمة الكلام في هذا المقام وذكر بعض المحققين في وجه تقديم السموات على الأرض تقدم خلقها على خلق الأرض ولا يخفى أنه قول لبعضهم
وعن الشيخ الأكبر قدس الله سره أن خلق المحدد سابق على خلق الأرض وخلق باقي الأفلاك بعد خلق الأرض وقد تقدم بعض الكلام في هذا المقام وتخصيص خلقها بالذكر لاشتمالها على جملة الآثار العلوية والسفلية وعامة الآلاء الجلية والخفية التي أجلها نعمة الوجود الكافية في إيجاب حمده تعالى على كل موجود فكيف بما يتفرع عليها من صنوف النعم الآفاقية وألانفسية المنوط بها مصالح العباد في المعاش والمعاد
والمراد بالخلق الإنشاء والايجاد أي أوجد السموات والأرض وأنشأهما على ما هما عليه مما فيه ءايات للمتفكرين وجعل الظلمات والنور عطف على خلق السموات داخل معه في حكم الاشعار بعلة الحمد وإن كان مترتبا عليه لأن جعلهما مسبوق بخلق منشئهما ومحلهما كما قيل والجعل كما قال شيخ الاسلام م الانشاء والابداع كالخلق خلا أن ذلك مختص بالانشاء التكويني وفيه معنى التقدير والتسوية وهذا عام له كما في اية وللتشريعي أيضا كما في قوله سبحانه ما جعل الله من بحيرة وأيا ما كان ففيه أنباء عن ملابسة مفعوله بشيء آخر بأن يكون او له او منه او نحو ذلك ملابسة مصححة لأن يتوسط بينهما شيء من الظروف لغوا كان او مستقرا لكن لا على أن يكون عمدة في الكلام بل قيدا فيه وقيل الفرق بين الجعل والخلق أن الخلق فيه معنى التقدير والجعل فيه معنى التضمين أي كونه محصلا من ءاخر كأنه في ضمنه ولذلك عبد عن أحداث النور والظلمة بالجعل تنبيها على أنهما لا يقومان بأنفسهما كما زعمت الثنوية وأعترض بأن الثنوية يزعمون أن النور والظلمة جسمان قديمان سميعان بصيران أولها خالق الخير والثاني خالق الشر فهما حينئذ ليسا بالمعنى الحقيقي المتعارف فمدعاهم الفاسد يبطل بمجرد هذا وأيضا الرد يحصل لكونهما محدثين بقطع النظر عما اعتبر في مفهوم الجعل ولو أتى بالخلق بدله حصل المقصود منه وأيضا أن الجعل المتعدي لواحد كما فيما نحن فيه لا يقتضي كونه غير قائم بنفسه ألا ترى إلى قوله سبحانه وجعل لكم من جلود الأنعام بيوتا وجعل بينها برزخا إلى غير ذلك واجيب بما لا يخلوا عن نظر وجمع الظلمات وافرد النور ليحسن التقابل مع قوله سبحانه خلق السموات والأرض أو لما قدمناه في البقرة
وقيل لأن المراد بالظلمة الضلال وهو متعدد وبالنور الهدى وهو واحد ويدل على التعدد والوحدة قوله تعالى وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله واختار غير واحد حمل الظلمة والنور هنا على الأمرين المحسوسين وإن جاء في الكتاب الكريم بمعنى الهدى والضلال وكان له هنا وجه أيضا لأن الأصل حمل اللفظ على حقيقته وقد أمكن مع وجود ما يلائمه ويقتضيه اقتضاء ظاهرا حيث قرنا بالسموات والأرض وعن قتادة أن المراد بهما الجنة والنار ولا يخفى بعده وللعلماء في النور والظلمة كلام طويل وبحث عريض حتى أنهم ألفوا في ذلك الرسائل ولم يتركوا بعد مقالا لقائل
وذكر الامام أن النور كيفية هي كمال بذاتها للشفاف من حيث هو شفاف أو الكيفية التي لا يتوقف الابصار بها على الابصار بشيء آخر وأن من الناس من زعم أنه أجسام صغار تنفصل عن المضيء وتتصل بالمستضيء وهو باطل أما أولا فلأن كونها أنوارا إا أن يكون هو عين كونها أجساما وإما أن يكون مغايرا لها والأول باطل لأن المفهوم من النورية مغاير للمفهوم من الجسيمة ولذلك يعقل جسم مظلم ولا يعقل نور مظلم وأما إن قيل إنها أجسام حاملة لتلك الكيفية تنفصل عن المضي وتتصل بالمستضيء فهو أيضا باطل لأن تلك الأجسام الموصوفة بتلك الكيفيات إما أن تكون محسوسة أو لا فإن كان الأول لم يكن الضوء محسوسا وإن كان الثاني كانت ساترة لما تحتها ويجب انها كلما ازدادت اجتماعا ازدادت سترا لكن الأمر بالعكس وأما ثانيا فلأن الشعاع لو كان جسما لكانت حركته بالطبع إلى جهة واحدة لكن النور مما يقع على كل جسم في كل جهة واما ثالثا فلأن النور إذا دخل من كوة ثم سددناها دفعة فتلك الأجزاء النورانية إما أن تبقى او لا فان بقيت فإما أن تبقى في البيت وإما أن تخرج فان قيل إنها خرجت عن الكوة قبل السد فهو محال وإن قيل إنها عدمت فهو أيضا باطل فكيف يمكن أن يحكم أن جسما لما تخلل بين جسمين عدم أحدهما فاذن هي باقية في البيت ولا شك في زوال نوريتها عنها وهذا هو الذي نقول من أن مقابلة المستضيء سبب لحدوث تلك الكيفية وإذا ثبت ذلك في بعض الأجسام ثبت في الكل وأما رابعا فلأن الشمس إذا طلعت من الافق يستبين وجه الأرض كله دفعة ومن البعيد أن تنتقل تلك الأجزاء من الفلك الرابع إلى وجه الأرض في تلك اللحظة اللطيفة سيما والخرق على الفلك محال عندهم واحتج المخالف بأن الشعاع متحرك وكل متحرك جسم فالشعاع جسم بيان الصغرى بثلاثة أوجه الأول أن الشعاع منحدر من ذيه والمنحدر متحرك بالبديهة والثاني أنه يتحرك وينتقل بحركة المضيء والثالث أنه قد ينعكس عما يلقاه إلى غيره والانعكاس حركة والجواب أن قولهم الشعاع منحدر فهو باطل وإلا لرأيناه في وسط المسافة بل الشعاع يحدث في المقابل القابل دفعة ولما كان حدوثه من شيء عال توهم أنه ينزل وأما حديث الانتقال فيرد عليه أن الظل ينتقل مع أنه ليس بجسم فالحق أنه كيفية حادثة في المقابل وعند زوال المحاذاة عنه إلى قابل آخر يبطل النور عنه ويحدث في ذلك الآخر وكذلك القول في الانعكاس فان المتوسط شرط لأن يحدث الشعاع من المضيء في ذلك الجسم ثم القائلون بأنه كيفية اختلفوا فمنهم من زعم أنه عبارة عن ظهور اللون فقط وزعموا أن الظهور المطلق هو الضوء واخفاء المطلق هو الظلمة والمتوسط بين الأمرين هو الظل وتختلف مراتبه بحسب مراتب القرب والبعد عن الطرفين واطالوا الكلام في تقرير ذلك بما لايجدي نفعا ولا يأبى أن يكون الضوء كيفية وجودية زائدة على ذات اللون كما يدل عليه أمور الاول أن ظهور اللون إشارة إلى تجدد أمر فهو إا أن يكون اللون أو صفة غير نسبية أو صفة نسبية والأول باطل لأنه لا يخلو إما أن يجعل النور عبارة عن تجدد اللون أو عن اللون المتجدد والاول يقتضي أن لا يكون الشيء مستنيرا إلا آن تجدده والثاني يوجب أن يكون الضوء نفس اللون فلا يبقى لقولهم الضوء ظهور اللون معنى وإن جعلوا الضوء كيفية ثبوتية زائدة على ذات اللون وسموه بالظهور عاد النزاع لفظيا وإن زعموا أن ذلك الظهور تجدد حالة نسبية فذاك باطل لأن الضوء أمر غير نسبي فلا يمكن أن يفسر بالحالة النسبية والثاني أن البياض قد يكون مضيئا و مشرقا وكذلك السواد فان الضوء ثابت لهما جميعا فلو كان كون كل منهما مضيئا نفس ذاته لزم أن يكون الضوء بعضه مضادا للبعض وهو محال إذ الضوء لا يقابله إلا الظلمة الثالث أن اللون يوجد من غير الضوء فان السواد مثلا قد لا يكون مضيئا وكذلك الضوء قد يوجد بدون اللون مثل الماء والبلور إذا كانا في الظلمة ووقع الضوء عليه وحده فانه حينئذ يرى ضؤوه فذلك ضوء وليس بلون فاذا وجد كل منهما دون الآخر فلابد من التغاير
الرابع أن المضيء للون تارة ينعكس منه الضوء وحده إلى غيره وتارة ينعكس منه الضوء واللون وذلك إذا كان قويا فيهما جميعا فلو كان الضوء ظهور اللون لاستحال أن يفيد غيره بريقا ساذجا وكون هذا البريق عبارة عن اظهار لون ذلك القابل يرد عليه أنه لماذا إذا اشتد لون الجسم المنعكس منه وضوؤه أخفى لون المنعكس اليه وأبطله وأعطاه لون نفسه إلى غير ذلك من الأدلة وفرق الامام بين النور والضوء والشعاع والبريق بأن الأجسام إذا صارت ظاهرة بالفعل مستنيرة فان ذلك الظهور كيفية ثابتة فيها منبسطة عليها من غير أن يقال إنها سواد أو بياض أو حمرة أو صفرة والآخر اللمعان وهو الذي يترقرق على الأجسام ويستر لونها وكأنه شيء يفيض منها وكل واحد من القسمين إما أن يكون من ذاته أو من غيره فالظهور للشيء الذي من ذاته كما للشمس والنار يسمى ضوءا والظهور الذي للشيءمن غيره يسمى نورا والترقرق الذي للشيء من ذاته كما للشمس يسمى شعاعا والذي يكون للشيء من غيره كما للمرآة يسمى بريقا
وقد تقدم لك الكلام في الفرق بين النور والضوء في سورة البقرة أيضا وكذلك الكلام في الظلمة والنسبة بينهما وبين النور والمشهور أن بينهما تقابل العدم والملكة ولهذا قدمت الظلمات على النور في اةية الكريمة
فقد صرحوا بأن الاعدام مقدمة على الملكات وتحقيق ذلك على ماذكره بعض المحققين أنه إذا تقابل شيئان أحدهما وجودي فقط فان اعتبر التقابل بالنسبة إلى موضوع قابل للأمر الوجودي إما بحسب شخصه أو بحسب نوعه أو بحسب جنسه القريب أو البعيد فهما العدم والملكة الحقيقيان أو بحسب الوقت الذي يمكن حصوله فيه فهما العدم والملكة المشهوران وإن لم يعتبر فيهما ذلك فهما السلب والايجاب فالعدم المشهوري في العمى والبصر هو ارتفاع الشيء الوجودي كالقدرة على الابصار مع ما ينشأ من المادة المهيئة لقبوله في الوقت الذي من شأنها ذلك فيه كما حقق في حكمة العين وشرحها فإذا تحقق أن كل قابل لأمر وجودي في ابتداء قابليته واستعداده متصف بذلك العدم قبل وجود ذلك الأمر بالفعل تبين أن كل ملكة مسبوقة بعدمها لأن وجود تلك الصفة بالقوة وهو متقدم على وجودها بالفعل وقال المولى ميرزاجان لابد في تقابل العدم والملكة أن يؤخذ في مفهوم العدمي كون المحل قابل للوجودي ولا يكفي نسبة المحل القابل للوجودي من غير أن يعتبر في مفهوم العدمي كون المحل قابلا له ولذا صرحوا بأن تقابل العدم والوجود تقابل الايجاب والسلب
قال في الشفاء العمى هو عدم البصر بالفعل مع وجوده بالقوة وهذا مما لابد منه في معناه المشهور انتهى وبه يندفع بعض الشكوك التي عرضت لبعض الناظرين في هذا المقام وقيل في تقدم عدم الملكة على الوجود إن عدم الملكة عدم مخصوص والعدم المطلق في ضمنه وهو متقدم على الوجود في سائر المخلوقات
ولذا قال الامام إنما قدم الظلمات على النور لأن عدم المحدثات متقدم على وجودها كما جاء في حديث رواه أحمد والترمذي عن عبد الله بن عمرو بن العاص أن الله تعالى خلق الخلق في ظلمة ثم رش عليهم من نوره وفي أخرى ثم ألقى عليهم من نوره فمن أصابه نوره اهتدى ومن أخطأه ضل فلذلك جف القلم بما هو كائن
وعليه الظلمة في الخبر بمعنى العدم والنور بمعنى الوجود ولا يلائمه سياق الحديث والظأهر ما قيل الظلمة عدم الهداية وظلمة الطبيعة والنور الهداية ومن المتكلمين من زعم أن الظلمة عرض يضاد النود واحتج لذلك بهذه الآية ولم يعلم أن عدم الملكة كالعمى ليس صرف العدم حتى لا يتعلق به الجعل وتحقيقه على ما قيل أن الجعل هنا ليس بمعنى الخلق والايجاد بل تضمين شيء شيئا وتصييره قائما به ثيام المظروف بالظرف أو الصفة بالموصوف والعدم من الثاني فصح تعلق الجعل به وإن لم يكن موجود عينا وفي الطوالع أن العدم المتجدد يجوز أن يكون بفعل الفاعل كالوجود الحادث فافهم ذاك والله تعالى يتولى هداك
ثم الذين كفروا بربهم يعدلون
يحتمل أن يكون يعدلون فيه من العدل بمعنى العدول أو منه بمعنى التسوية والكفر يحتمل أن يكون بمعنى الشرك المقابل للايمان أو بمعنى كفران النعمة والباء يحتمل أن تتعلق بكفروا وأن تتعلق بيعدلون وعلى التقادير فالجملة إما إنشائية لانشاء الاستبعاد أو إخبارية واردة للاخبار عن شناعة ما هم عليه ثم هي إما معطوفة على جملة الحمد لله انشاء أو أخبارا أو على قوله سبحانه خلق صلة الذي أو عل الظلمات مفعول جعل فالاحتمالات ترتقي إلى أربعة وستين حاصلة من ضرب ستة عشر احتمالات المعطوف في اربعة اعني احتمالات المعطوف عليه وإذا لوحظ هناك أمور مشهورة بلغت الاحتمالات أربعة آلاف وزيادة ولكن ليس لنا إلى هذه الملاحظة كبير داع والذي اختاره كثير من المحققين من تلك الاحتمالات أن تكون الجملة معطوفة على جملة الحمد والعدل بمعنى العدول أي الانصراف والجار متعلق بكفروا وهو من الكفر بمعنى الشرك أو كفران النعمة ويقدر مضاف بعد الجار والمعنى أن الله تعالى حقيق بالحمد على ما خلق من النعم اجسام التي أنعم بها على الخاص والعام ثم الذين أشركوا به أو كفروا بنعمه يعدلون فيكفرون نعمه وأن تكون معطوفة على جملة الصلة والعدل بمعنى التسوية والجار متعلق به والكفر بأحد المعنيين
والمعنى أنه سبحانه خلق هذ النعم الجسام والمخلوقات العظام التي دخل فيها كل ما سواه ثم إن هؤلاء الكفرة أو هؤلاء الجاحدين للنعم يسوون به غيره ممن لايقدر عليها وهم في قبضة تصرفه ومهاد تربيته
و ثم لاستبعاد ما وقع من الذين كفروا أو للتوبيخ عليه كما قال ابن عطية وجعلها ابو حيان لمجرد التراخي في الزمان وهو وإن صح هنا باعتبار أن كل ممتد يصح فيه التراخي باعتبار أولع والفور باعتبار آخره كما حققه النحاة إلا أن ماذكر أوفق بالمقام ونكتة وضع الرب موضع ضميره تعالى على تقدير تأكيد امر الاستبعاد ووجه جعل الباء متعلقة بيعدلون على أحد احتماليه وبكفروا على الاحتمال الآخر أنه إذا كان من العدل بمعنى التسوية يقتضي التوصل بالباء بخلاف ما إذا كان منه بمعنى العدول فالظأهر أنها حينئذ متعلقة بما قبلها وما قاله المحقق التفتازاني مني أنه لا مخصص لكل من توجيهي بربهم يعدلون بواحد من العطفين يمكن دفعه بأن وجه تخصيص كل بما خصص به اتساق نظم الآية حينئذ وظهور شدة المناسبة بين ما عطف بثم الاستبعادية وبين ما عطف عليه وذلك لأنه إذا قيل مثلا في الصورة الأولى إن الله تعالى إستحق جميع المحامد من العباد فهم أن العدول عنه تعالى والاعراض عن حمده سبحانه في غاية الاستبعاد فيناسب أن يقال ثم الذين كفروا بربهم يعدلون عنه فلا يحمدونه ولا يتلفتون لفتة ولا يناسب أن يقال إنهم يسوون به غيره إذ لم يسبق صريحا وبالقصد الأولي ما ينفي التسوية وإذا قيل مثلا في الصورة الثانية إنه جعل شأنه خلق هذه الأجسام العظام مما لا يقدر عليه أحد ناسب في الاستبعاد أن يقال ثم الذين كفروا يسوون به ما لا يقدر على شيء لا أنهم لا يحمدونه وعرضون عنه
وقال بعض المحققين إذا كان المعنى على الأول الحمد والثناء مستحق للمنعم بهذه النعم الشاملة سائر الأمم فكيف يتأتى من الكفرة والمشركين المستغرقين في بحار إحسانه العدول عنه وعلى الثاني المعروف بالقدرة على إيجاد هذه المخلوقات العظأم التي دخل فيها كل ما سواه من الخاص والعام كيف يتسنى لهؤلاء الكفرة أو لهؤلاء الجاحدين للنعم أن يسووا به غيره وهم في قبضته فوجه التخصيص في الأول أنه لا يخفى استبعاد انصراف العبد عن سيده وولي نعمته إلى سواه بخلاف التسوية فان المنعم قد يساويه غيره ممن يحسن إلى غيره وفي الثاني أن استبعاد التسوية عليه مما لا يكاد يتصور بخلاف العدول عنه فانه قد يتصور لجهل العادل بحقه فان العدول لا ينافي عدم المعرفة بخلاف التسوية فانه لا يسوي بين شيئين لا يعرفهما بوجه ما فتدبر واعترض غير واحد على العطف على الصلة بأنه لا وجه لضم ما لا دخل له في استحقاق الحمد ماله ذلك ثم جعل المجموع صلة في مقام يقتضي كون الصلة محمودا عليه وأجيب بأن في الكلام على ذلك التقدير إشارة إلى علو شأنه تعالى وعموم إحسانه للمستحق وغيره حيث ينعم بمثل تلك النعم الجليلة على من لا يحمده ويشرك به جل شأنه وفي ذلك تعظيم منبيء عن كمال الاستحقاق وقد يقال وقوع هذا المعطوف موقع المحمود عليه باعتبار معنى التعظيم المستفاد من انكار مضمونه فكأنه قيل الحمد لله جل جنابه عن أن يعدل به شيء لكن لا يخفى أن المحمود عليه يجب في المشهور أن يكون جميلا اختياريا وما ذكر ليس كذلك فعليه لابد من التأويل
وذكر شيخ الاسلام في الاعتراض على العطف المذ كور أن ما ينتظم في سلك الصلة المنبئة عن موجبات حمده تعالى حقه أن يكون له دخل في ذلك الانباء في الجملة ولا ريب في أن كفرهم بمعزل عنه وإدعاء أن له دخلا فيه لدلالته على كمال الجود كأنه قيل الحمد لله الذي أنعم بمثل هذه النعم العظام على من لا يحمده تعسف لا يساعده النظام وتعكيس يأباه المقام كيف لا وسياق النظم الكريم كما تفصح عنه الآيات لتوبيخ الكفرة ببيان غاية اساءتهم في حقه سبحانه وتعالى مع نهاية إحسانه تعالى إليهم لا بيان احسانه تعالى إليهم مع غاية اساءتهم في حقه عز وجل كما يقتضيه الادعاء المذكور وبهذا اتضح أنه لا سبيل إلى جعل المعطوف من روادف المعطوف عليه لما أن حق الصلة أن تكون غير مقصودة الافادة فما ظنك بروادفها وقد عرفت أن المعطوف هو الذي سيق له الكلام انتهى ورد بأنه لا شك في أنه على هذا الوجه يراد الحمد لله الذي أنعم بهذه النعم الجسام على من لا يحمده ولا تعسف فيه لبلاغته وادعاء التعكيس ممنوع فان المقام مقام الحمد كما تفيده الجملة المصدر بها وما بعده كلام آخر ولا يترك مقتضى مقام لأجل مقتضى مقام ءاخر إذ لكل مقام مقال وأعترض أيضا بأنه لا يصح من جهة العربية لأن الجملة خالية من رابط يربطها بالموصول اللهم إلا أن يخرج على نحو قولهم ابو سعيد رويت عن الخدري حيث وضع الظأهر موضع الضمير وكأنه قيل ثم الذين كفروا به يعدلون إلا أن هذا من الندور بحيث لا يقاس عليه فلا ينبغي حمل كتاب الله تعالى على مثله مع امكان حمله على الوجه الصحيح الفصيح وأجيب بانه لا يلزم من ضعف ذلك في ربط الصلة إبتداء ضعفه فيما عطف عليها فكثيرا ما يغتفر في التابع ما لا يغتفر في غيره والجواب بأن هذا العطف لا يحتاج إلى الرابط عجيب لأنه لم يقل أحد من النحاة إن المعطوف على الصلة بثم يجوز خلوه عن الرابط وغاية ما ذكروه أنه نكتة للربط بالاسم
واعترض شيخ الاسلام على احتمال أن يراد بالعدل العدول مع اعتبار التشنيع عليهم بعدم الحمد بأن كفرهم به تعالى لا سيما باعتبار ربوبيته أشد شناعة وأعظم جناية من عدولهم عن حمده سبحانه فجعل أهون الشرين عمدة في الكلام مقصودا بالافادة واخراج أعظمهما مخرج القيد المفروغ منه مما لا عهدة له في الكلام السديد فكيف بالنظم التنزيلي وأجيب بانه لما كان المقام مقام الحمد ناسب التشنيع عليهم بذلك فلا يرد اعتراض الشيخ وقد ذكر هو قدس سره توجيها للآية وادعى أنه الحقيق بجزالة التنزيل وحط عليه الشهاب فيه ولعل الأمر أهون من ذلك والذي تصدح به كلماتهم أن صلة يعدلون على تقدير أن يكون من العدل بمعنى العدول متروكة ليقع الانكار على نفس الفعل وإنما قدروا له مفعولا على تقدير أن يكون من العدل فتحت التوراة بالحمد لله الذي خلق السموات والارض وجعل الظلمات والنور ثم الذين كفروا بربهم يعدلون وختمت بالحمد لله الذي لم يتخذ ولدا إلى قوله سبحانه وتعالى وكبره تكبيرا
زاد المسير – ابن الجوزي ج3/ص2
فأما التفسير فقال كعب فاتحة الكهف فاتحة الأنعام وخاتمتها خاتمة هود وإنما ذكر السموات والأرض لأنهما من أعظم المخلوقات
والمراد بالجعل الخلق وقيل إن جعل ههنا صلة والمعنى والظلمات وفي المراد بالظلمات والنور ثلاثة أقوال أحدها الكفر والإيمان قاله الحسن والثاني الليل والنهار قاله السدي والثالث جميع الظلمات والأنوار
قال قتادة خلق الله السموات قبل الأرض والظلمات قبل النور والجنة قبل النار
قوله تعالى ثم الذين كفروا يعني المشركين بعد هذا البيان بربهم يعدلون أي يجعلون له عديلا فيعبدون الحجارة الموات مع إقرارهم بأنه الخالق لما وصف يقال عدلت هذا بهذا إذا ساويته به قال أبو عبيدة هو مقدم ومؤخر تقديره يعدلون بربهم وقال النضر بن شميل الباء بمعنى
عن فتح القدير – الشوكاني ج2/ص98
بدأ سبحانه هذه السورة بالحمد لله للدلالة على أن الحمد كله له ولإقامة الحجة على الذين هم بربهم يعدلون وقد تقدم في سورة الفاتحة ما يغنى عن الإعادة له هنا ثم وصف نفسه بأنه الذى خلق السموات والأرض إخبارا عن قدرته الكاملة الموجبة لاستحقاقه لجميع المحامد فإن من اخترع ذلك وأوجده هو الحقيق بإفراده بالثناء وتخصيصه بالحمد والخلق يكون بمعنى الاختراع وبمعنى التقدير وقد تقدم تحقيق ذلك وجمع السموات لتعدد طباقها وقدمها على الأرض لتقدمها في الوجود والأرض بعد ذلك دحاها قوله وجعل الظلمات والنور معطوف على خلق ذكر سبحانه خلق الجواهر بقوله خلق السماوات والأرض ثم ذكر خلق الأعراض بقوله وجعل الظلمات والنور لأن الجواهر لا تستغنى عن الأعراض
واختلف أهل العلم في المعنى المراد بالظلمات والنور فقال جمهور المفسرين المراد بالظلمات سواد الليل وبالنور ضياء النهار وقال الحسن الكفر والإيمان قال ابن عطية وهذا خروج عن الظاهر انتهى والأولى أن يقال إن الظلمات تشمل كل ما يطلق عليه اسم الظلمة والنور يشمل كل ما يطلق عليه اسم النور فيدخل تحت ذلك ظلمة الكفر ونور الإيمان أو من كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات وأفرد النور لأنه جنس يشمل جميع أنواعه وجمع الظلمات لكثرة أسبابها وتعدد أنواعها قال النحاس جعل هنا بمعنى خلق وإذا كانت بمعنى خلق لم تتعد إلا إلى مفعول واحد وقال القرطبي جعل هنا بمعنى خلق لا يجوز غيره قال ابن عطية وعليه يتفق اللفظ والمعنى في النسق فيكون الجمع معطوفا على الجمع والمفرد معطوفا على المفرد وتقديم الظلمات على النور لأنها الأصل ولهذا كان النهار مسلوخا من الليل قوله ثم الذين كفروا بربهم يعدلون معطوف على الحمد لله أو على خلق السموات والأرض وثم لاستبعاد ما صنعه الكفار من كونهم بربهم يعدلون مع ما تبين من أن الله سبحانه حقيق بالحمد على خلقه السموات والأرض والظلمات والنور فإن هذا يقتضى الإيمان به وصرف الثناء الحسن إليه لا الكفر به واتخاذ شريك له وتقديم المفعول للاهتمام ورعاية الفواصل وحذف المفعول لظهوره أي يعدلون به ما لا يقدر على شيء مما يقدر عليه وهذا نهاية الحمق وغاية الرقاعة حيث يكون منه سبحانه تلك النعم ويكون من الكفرة الكفر
معاني القرآن – النحاس ج2/ص398
قوله جل وعز الحمد لله الذي خلق السموات والارض وجعل الظلمات والنور قال قتادة خلق الله السماء قبل الارض والليل قبل النهار والجنة قبل النار فأما قوله والارض بعد ذلك دحاها فمعناه بسطها 2 وقوله جل وعز ثم الذين كفروا بربهم يعدلون قال مجاهد أي يشركون قال الكسائي يقال عدلت الشيء بالشيء عدولا اذا ساويته به وهذا القول يرجع الى قول مجاهد لانهم اذا عبدوا مع الله غيره فقد ساووه به وأشركوا