انه لا يرى في الظلام
انه لا يرى في الظلام
قال تعالى (مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَاراً فَلَمَّا أَضَاءتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لاَّ يُبْصِرُونَ صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ )(17 18) (البقرة)
مختصر أقوال المفسرين في هذه الآية
المقصود من ضرب الأمثال أنها تؤثر في القلوب ما لا يؤثره وصف الشيء في نفسه و المثل وهو النظير، كأنه قيل قصتهم العجيبة كقصة الذي استوقد نارا وكذا قوله مثل الجنة التى وعد المتقون الرعد 35 أي فيما قصصنا عليك من العجائب قصة الجنة العجيبة، ووقود النار سطوعها وارتفاع لهبها ، والنار جوهر لطيف مضيء حار محرق والنور ضوءها وضوء كل نير وهو نقيض الظلمة ، والاضاءة فرط الانارة، فلما أضاءت ما حوله خمدت فبقوا خابطين في ظلام متحيرين متحسرين على فوت الضوء خائبين بعد الكدح في إحياء النار ذهب الله بنورهم ، اذا طفئت النار بسبب سماوي ريح او مطر فقد أطفأها الله و ذكر النور أبلغ لأن الضوء فيه دلالة على الزيادة ، والظلمة عبارة عن عدم النور وانطماسه ، وظلمات تعني انها ظلمة مبهمة لا يتراءى فيها شبحان والفرق ، بين اذهبه وذهب به ان معنى أذهبه ازاله وجعله ذاهبا ، وهنا التمثيل ليمثل هداهم الذي باعوه بالنار المضيئة ما حول المستوقد والضلالة التي اشتروها وطبع بها على قلوبهم بذهاب الله بنورهم وتركه إياهم في الظلمات لا يرجعون وأنهم لا يعودون الى الهدى بعد ان باعوه او عن الضلالة بعد ان اشتروها وهي فيمن آمن ثم كفر بالنفاق فإيمانه بمنزلة النار إذا أضاءت وكفره بعد بمنزلة انطفائها وذهاب النور
إن ما يظهر المنافق في الدنيا من الإيمان فيحقن به دمه ويحرز ماله ويناكح ويخالط كالنار التي أضاءت ما حوله فإذا مات صار إلى العذاب الأليم فذلك بمنزلة انطفائها وبقائه في الظلمات
إن إقبال المنافقين إلى المسلمين وكلامهم معهم كالنار وانصرافهم إلى مردتهم وارتكاسهم عندهم كذهابها
وقالت فرقة إن المنافقين كانوا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين في منزلة بما أظهروه فلما فضحهم الله وأعلم بنفاقهم سقطت المنزلة فكان ذلك كله بمنزلة النار وانطفائها
وقالت فرقة منهم قتادة نطقهم ب لا إله إلا الله والقرآن كإضاءة النار واعتقادهم الكفر بقلوبهم كانطفائها يتم تمثيل المنافق بالمستوقد لأن بقاء المستوقد في ظلمات لا يبصر كبقاء المنافق قال القاضي أبو محمد وذهب قوم في ظلمات بفتح اللام إلى أنه جمع ظلم فهو جمع الجمع فهم لا يرجعون ما داموا على الحال التي وصفهم بها ، وعن السدي ثم قال والتشبيه ها هنا في غاية الصحة لأنهم بإيمانهم اكتسبوا أولا نورا ثم بنفاقهم ثانيا أبطلوا ذلك فوقعوا في حيرة عظيمة فإنه لا حيرة أعظم من حيرة الدين وقال سعيد عن قتادة في هذه الآية إن المعنى أن المنافق تكلم بلا إله إلا الله فأضاءت له في الدنيا فناكح بها المسلمين وغازاهم بها ووارثهم بها وحقن بها دمه وماله فلما كان عند الموت سلبها المنافق لأنه لم يكن لها أصل في قلبه ولا حقيقة في عمله وتركهم في ظلمات لا يبصرون ، و مثلهم في نفاقهم كمثل رجل أوقد نارا في ليلة مظلمة في مفازة فاستدفأ ورأى ما حوله فاتقى مما يخاف فبينما هو كذلك إذ طفئت ناره فبقي في ظلمة خائفا متحيرا عبر بإذهاب النور عنه لأن النور نور وحرارة فيذهب نورهم وتبقى الحرارة ، او فبينما هو كذلك إذ ذهب الله بنوره فبقى في الظلمة العظيمة والنار المحرقة ، فبقي في ظلمات متعددة وهي ظلمة الليل وظلمة السحاب وظلمة المطر والظلمة الحاصلة بعد النور فكيف يكون حال هذا الموصوف فكذلك هؤلاء المنافقون
وفي المراد ب الظلمات ها هنا أربعة أقوال أحدها العذاب قاله ابن عباس والثاني ظلمة الكفر قاله مجاهد والثالث ظلمة يلقيها الله عليهم بعد الموت قاله قتادة والرابع أنها نفاقهم قاله السدي الصمم انسداد منافذ السمع وهو أشد من الطرش وفي البكم ثلاثة أقوال أحدها أنه الخرس والثاني أنه عيب في اللسان لا يتمكن معه من النطق وقيل إن الخرس يحدث عنه والثالث أنه عيب في الفؤاد يمنعه ان يعي شيئا فيفهمه ، فهم لا يرجعون ,لا يرجعون عن ضلالتهم او لا يرجعون الى الإسلام
وعند مراجعتي وجدت ان احسن من قال في هذه الآية الامام الألوسي في كتابه روح المعاني والاختصار فيه غير منسب والرجوع الى المتن افضل فيه وسيدخل كامله في المناقشة
التفسير العلمي والإعجاز القرآني في هذه الآية
قال تعالى (مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَاراً فَلَمَّا أَضَاءتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لاَّ يُبْصِرُونَ صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ )(17 18) (البقرة)
هذه الآيات جزء من سورة البقرة وجزء من آيات يصف بها الله سبحانه وتعالى المنافقين
، فضرب لهم هذا المثل ، وعلى عادة الامثال القرآنية فقد كانت مؤثرة بلغتها ودقتها في عصر الرسالة قبل الف واربعمئة عام ولازالت تهز اوتار القلب ، يصف سبحانه وتعالى ظاهرة معروفة لم يستغرب العرب في الجاهلية ذكرها ، فالله سبحانه وتعالى ذكر المنافقين بالمثل بانهم وهم بعدما عرفوا الدين الصحيح وذاقوا حلاوته يتراجعون عنه خفيه وينكرونه في انفسهم وفيما بينهم ، فيظهرهم سبحانه وتعالى كشخص اوقد النار في ليل مظلم ليحصل على النور ولتضيء له المكان ، وبعد ظهور الضوء وارتفاع السنه النار خمدت بسرعه وذهب نورها فترك في ظلام دامس لا يستطيع ان يرى فيه شيئا . بمراجعه هذا المثل فان الذى استوقد نار كان في ظلام دامس فاشعل النار وانطفأت فعاد في ظلام دامس ، ولكنه بصفة اضافية يصفهم سبحانه وتعالى (فِي ظُلُمَاتٍ لاَّ يُبْصِرُونَ ) فهل هو عندما كان في ظلام قبل ايقاد النار كان مبصرا ليصفهم سبحانه وتعالى بعد ذلك (لاَّ يُبْصِرُونَ ) ؟؟ وهل اصبحت الظلمة ظلمات ؟؟ وهل الظلمة الواحدة لا تكفي لكى يكون غير مبصرا ؟؟ ومن اين جاءت الظلمات بعد الظلمة ؟؟ وما الفرق بين الضوء والنور؟؟ .
كان العربي في الجاهلية متعايشا مع الظلام الى حد ما, ووصفه في اشعاره ، وكان للظلام رهبه في انفسهم ففيه تختفي الجن والاشباح والاعداء, قال الحطيئة
رأى شبحا وسط الظلام فراعه فلما رأى ضيفا تشمر واهتما
وكان يكفى للقرآن ان يصف ان المنافق في ليل مظلم مدلهم شديد الظلمة ليعطي معنى انه ضال ويفهمه العربي في زمن الرسالة بهذا المعنى !! ولكن هل سيكون هذ الكلام علميا صحيحا لو ذكره سبحانه وتعالى هكذا وكما يفهمه العرب .
كما عرفنا سابقا في هذا الكتاب فان الانسان الاعتيادي يستطيع ان يرى بعض الشيء حتى في اشد الليالي حلكه ، ففي ليل مظلم لا قمر فيه يستطيع الانسان الاعتيادي ان يرى طريقه او يرى حيوانا او يرى شخصا اخر ، وهذا ما ذكره الشاعر ( رأى شبحا وسط الظلام فراعه ) فهو يرى شبحا وسط الظلام ولكن لن يكون واضحا او بينا فالإضاءة ستكون بدرجة واحد الى مائة الف ملى لامبرتيز(مقياس علمي لشدة الضوء ) اى في ليل بدون قمر يمكن ان نرى فيها ورقة بيضاء او سوداء ( انظر الشكل 6 المنقول من كتاب كانون للفسلجة ) لذلك فان ذكر ليل مدلهم سوف لن يعطى علميا مثلا جيدا للإنسان لان يكون بدون ابصار ، ولو لفترة محدودة ، فذلك فان الانسان الذى استوقد نارا ليرى يعنى هو في ظلام واحتاج الى ايقاد النار ( درجة الاضاءة المريحة هي من واحد الى عشرة ملى لامبرتيز كما في الشكل 6 المنقول عن كتاب كانون للفسلجة لذلك فهو في وضع غير مريح دفعه لإيقاد النار ) وبعد ايقادها فان النار لها صفة وهى عدم الانتظام فيرتفع منها لهب ثم يهبط ثم يرتفع مرة اخرى في كل ثانية بلهبات متقطعة فتعطى ومضات ، ونظرا لان العين في ليل مظلم فان البؤبؤ قد توسع لأعلى درجة وقد تجهزت المستلمات البصرية في الشبكية لاستلام الضوء بأعلى حساسية حيث انه وجد ان العين ليلا او في الظلام يتوقف فيها اطلاق ماده تسمى الدوبامين والتي تطلق عند وجود ضوء ساطع ، وهذه المادة تقوم بتثبيط مرور الايعازات خلال طبقات الشبكية ( كانون للفسلجة ص160) ، في نفس الوقت فان لهبات النار لثانية او اقل لا تكفي لأن تعطى صفه مستمرة لبؤبؤ العين بتأثير اضاءة لذا سيصل الضوء الى الحلقة الثانية حول مركز الرؤيا في محيط الشبكية ( انظر الشكل رقم 4 ) لقد وضحنا سابقا ما سيحدث حيث ان التحفيز على المنطقة المحيطة سيؤدى الى تثبيط
الشكل رقم 6 جدول شدة الضوء للظواهر المعروفة
شديد جدا لمركز الرؤيا في العين ، وعندما تذهب الإضاءة فجأة فان كامل شبكية العين ستكون ممانعة في طبقتها الثانية والثالثة ولا تسمح بمرور اثر التحفيز الضوئي الجديد القادم من إضاءة خافته وهى اضاءة النجوم لا بل حتى الاقوى من ذلك ولمدة من الزمن ، وسيرى الانسان في هذه المدة اثار الاضاءة القادمة من النار التي انطفئت منطبعة في عينه مما يؤدى الى انحسار شديد في مرور الصور من شبكية العين الى العصب البصرى ( انظر الصف الثاني من الاسفل الشكل رقم 4 ) لذلك كان المثل دقيقا علميا ، اما في حالة وجود نور متوازن فلن تحدث هذه الحالة او قد تكون بسيطة جدا اساسها التعود العيني على الاضاءة ، اما في حاله ( الذى استوقد نارا ) فان النتيجة تكون بأعلى تأثيراتها لذلك يقول سبحانه وتعالى (وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لاَّ يُبْصِرُونَ ) فأصبحت ظلمة اليل والتي قلنا بإمكانية الرؤيا فيها مضافا اليها ظلمات في كل طبقة من طبقات شبكية العين متمثلة بحالة الممانعة اضافة الى انعكاس دماغي يطلق مادة مثبطه لنقل الايعازات نظرا لوصول ومضات مرهفة في محيط الشبكية(كانون للفسلجة ص160 ) كمنا ان التعرض لكذا ضوء سوف يؤدي الى ممانعة في طبقات (لاترل جنيكيوليت نيوكليص) وكذلك في الطبقة الرابعة لقشرة الدماغ البصرية (كانون للفسلجة ص161) ، فأصبحت الظلمة ظلمات ، ونتيجة لهذه الظلمات فان العين لم تتلف ولكن لم تعد تبصر لفتره من الزمن وسيعود لها البصر ، فلا حروق ولا تلف ولا أي شيء ، فالله سبحانه وتعالى لم يذكر العين بالعمى او التلف بل قال ( لا يبصرون ) فالتأثير هو على عملية الابصار فقط والابصار هنا ادق من الرؤية ، حيث ان الابصار هو الذى تأثر فقط . وبالرجوع الى (الشكل رقم 10 كتاب كانون للفسلجة )
فان الانسان سيحتاج الى عشرين دقيقة ليتأقلم مره اخرى للظلام أي ليرجع في ظلمة واحده مبصرا ولو قليلا ، لنرجع مرة اخرى للآية , سنرى ان الله سبحانه وتعالى ذكر ان النار أضاءت ولكن الله ذهب بنورهم أي لم يذهب ضوء النار كله (فَلَمَّا أَضَاءتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللّهُ بِنُورِهِمْ) وهنا امر في غاية الدقة العلمية ، فالضوء من النار او من الشمس فيها مديات موجيه واسعه جدا تشمل ما يرى وما لا يرى وما هو نافع وما هو ضار وعلميا فان النور هو الجزء المرئي من الضوء أي اللون الابيض شاملا من البنفسجي الى الاحمر او من 450 -750 نانوميتر طول موجي وهذا تقريبا هو المدى الموجي لضوء القمر او لنقل لنور القمر، فالنور يكاد ان يكون الجزء النافع من الضوء للإنسان , وذكر سبحانه وتعالى انه اذهب نورهم ولم يقل اطفا نارهم (ولو انها فهمت هكذا حتى من المفسرين) وكان ذلك بقدرته سبحانه وتعالى أي لم يقل ذهب نورهم بل ارجعه اليه سبحانه( ذَهَبَ اللّهُ بِنُورِهِمْ) فلال يهمنا ان بقت النار متقده او اطفات حيث ان النار المطفأة يبقى بها نور جمرها ولكن من كان قرب نار وبسبب ما لم يعد يرى فسيكون في شدة اكثر بكثير من بردت ناره حيث انه سيبقى خائفا ان يقع في النار التي جنبه ولا يراها (هناك تفصيل للنور والضوء ونور الله ونور العين ونور القمر والالوان في فصل لاحق) ، أي لو ان القرآن ذكر المثل للمنافق انه لا يرى في ظلام اليل لكان خطأ علميا فادحا ولن يكون المثل ادق ولا أحسن علميا من هذه الصيغة ، وهذا اثبات ان الذى خلقنا هو الذى نزل هذا القران على قلب محمد صلى الله عليه وسلم وهذا يدل على علم دقيق بفسلجة العين واي علم حتى انه لا يعرفه من الاطباء الا المتخصصين في العيون فقط ، يقول ابن كثير في تفسيره ( ذهب الله بنورهم الذى هو الايمان فلم يرجعوا الى الكفر كما كانوا قبل ان يعرض عليهم الاسلام ويقبلوه بل ازدادوا ظلمات ، فالله جعل النور واحدا يكفي للهداية والظلمات هنا كثيرة فهي ظلمة اليل ثم ظلمة عيونهم ) ويا لدقة القرآن ويا لجمال هذا التفسير فعندما ذكر الله سبحانه وتعالى ( لا يبصرون ) وفق الله ابن كثير فعرفها رحمه الله لأنها ظلمات في العين ، والله يأتي علمه من يشاء .
المقارنة بين التفسير العلمي والتفسير النقلي في هذه الآية
تعالى (مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَاراً فَلَمَّا أَضَاءتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لاَّ يُبْصِرُونَ صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ
لقد اهتم معظم المفسرين في القضايا اللغوية ورد الشبهات في النظم اللغوي وكان جل تركيزهم على التالي :
كلمة (مثله وكمثل) ومن اين جاءت الامثال .
اوقد واستوقد نارا .
الافراد في المثل (الذي استوقد نارا واحد) والمنافقين جمع وهل يجوز ان يطلق المثل المفرد للمجموع.
هل يجوز اعتبار المنافقين انهم استفادوا من الايمان لان النار أضاءت لهم.
هل المثل مناسب من حيث تشبيه المنافقين بالذي استوقد نارا.
لماذا قال سبحانه وتعالى ذهب بنورهم وما الفرق بين ذهب واذهب.
اكثروا من تصاريف اللغة في المتعدي في أضاءت , كما اهتموا كثيرا في التصاريف بصورة عامه واكثرها لرد الشبهات لا لتوضيح المعنى للعوام.
اثنين من المفسرين اهتم بالظلمات والباقين عرفوها بذهاب النور مع( لا يبصرون).
ومن هذا فان التفسير النقلي (يستثنى منه الالوسي) ذكر امورا لا تهم المعنى المفهوم في عصرنا او انها تخص شبهات كانت رائجة في وقت المفسر ، وقد قام العلماء المفسرين الاجلاء بعظيم العمل ولا نقدح في جهدهم ولا في علمهم ولكن المتداول من العلم المعملي في زمنهم كان ضعيفا لذلك كانت هناك ثغرات جعلتهم يجتهدوا بما لديهم من معلومات ، وهذا واضح عند العلامة الألوسي حيث كان كلامه ادق علميا لأنه من المتأخرين(زمانا) .
نرى من التفسير العلمي التالي
1- ان المثل دقيق جدا من استوقد نارا لحاجته للضوء ثم ذهاب النور ثم الظلمات ، ومن قوة الإضاءة وامكانية الرؤيا الليلية قبل ايقاد النار وعدم امكانيتها بعد انطفائها او ذهاب نورها فاصبحوا لا يبصرون.
2- عرفنا السبب الرئيسي علميا للظلمات في العين وفي مجمل عملية نقل الايعازات من العين الى وعي المرئي لذلك كانت الدقة في كلمة لا يبصرون.
3- عرفنا الفرق بين الضوء القادم من النار, والنور الذى ذهب به الله سبحانه وتعالى.
النتائج والمناقشة
ان هذه الآية والتي يذكر سبحانه وتعالى فيها مثلا للمنافقين لا يمكن ان تكون الا من الله سبحانه وتعالى لأنها جاءت بأسلوب لم يتعارض مع اعلى القواعد العلمية للفسلجة الطبية وللفيزياء البصرية وبصياغة ادبيه حيرت اهل اللغة لدقتها
اقوال المفسرين لمن يحب الرجوع اليها
التفسير الكبير – الرازي ج2/ص66
مثلهم كمثل الذى استوقد نارا فلمآ أضاءت ما حوله ذهب الله بنورهم وتركهم في ظلمـات لا يبصرون 2
اعلم أنا قبل الخوض في تفسير ألفاظ هذه الآية نتكلم في شيئين أحدها أن المقصود من ضرب الأمثال أنها تؤثر في القلوب ما لا يؤثره وصف الشيء في نفسه وذلك لأن الغرض من المثل تشبيه الخفي بالجلي والغائب بالشاهد فيتأكد الوقوف على ماهيته ويصير الحس مطابقا للعقل وذلك في نهاية الإيضاح ألا ترى أن الترغيب إذا وقع في الإيمان مجردا عن ضرب مثل له لم يتأكد وقوعه في القلب كما يتأكد وقوعه إذا مثل بالنور وإذا زهد في الكفر بمجرد الذكر لم يتأكد قبحه في العقول كما يتأكد إذا مثل بالظلمة وإذا أخبر بضعف أمر من الأمور وضرب مثله بنسج العنكبوت كان ذلك أبلغ في تقرير صورته من الأخبار بضعفه مجردا ولهذا أكثر الله تعالى في كتابه المبين وفي سائر كتبه أمثاله قال تعالى وتلك الامثـال نضربها للناس العنكبوت 43 الحشر 21 ومن سور الإنجيل سورة الأمثال وفي الآية مسائل ـ
المسألة الأولى المثل في أصل كلامهم بمعنى المثل وهو النظير ويقال مثل ومثل ومثيل كشبه وشبه وشبيه ثم قيل للقول الثائر الممثل مضر به بمورده مثل وشرطه أن يكون قولا فيه غرابة من بعض الوجوه وثانيها أن يقال إن من استوقد نارا فأضاءت قليلا فقد انتفع بها وبنورها ثم حرم فأما المنافقون فلا انتفاع لهم ألبتة بالإيمان فما وجه التمثيل وثالثها أن مستوقد النار قد اكتسب لنفسه النور والله تعالى ذهب بنوره وتركه في الظلمات والمنافق لم يكتسب خيرا وما حصل له من الخيبة والحيرة فقد أتى فيه من قبل نفسه فما وجه التشبيه والجواب أن العلماء ذكروا في كيفية التشبيه وجوها أحدها قال السدي إن ناسا دخلوا في الإسلام عند وصوله عليه السلام إلى المدينة ثم إنهم نافقوا والتشبيه ههنا في نهاية الصحة لأنهم بإيمانهم أولا اكتسبوا نورا ثم بنفاقهم ثانيا أبطلوا ذلك النور ووقعوا في حيرة عظيمة فإنه لا حيرة أعظم من حيرة الدين لأن المتحير في طريقه لأجل الظلمة لا يخسر إلا القليل من الدنيا وأما المتحير في الدين فإنه يخسر نفسه في الآخرة أبد الآبدين وثانيها إن لم يصح ما قاله السدي بل كانوا منافقين أبدا من أول أمرهم فههنا تأويل آخر ذكره الحسن رحمه الله وهو أنهم لما أظهروا الإسلام فقد ظفروا بحقن دمائهم وسلامة أموالهم عن الغنيمة وأولادهم عن السبي وظفروا بغنائم الجهاد وسائر أحكام المسلمين وعد ذلك نورا من أنوار الإيمان ولما كان ذلك بالإضافة إلى العذاب الدائم قليلا قدرت شبههم بمستوقد النار الذي انتفع بضوئها قليلا ثم سلب ذلك فدامت حيرته وحسرته للظلمة التي جاءته في أعقاب النور فكان يسير انتفاعهم في الدنيا يشبه النور وعظيم ضررهم في الآخرة يشبه الظلمة وثالثها أن نقول ليس وجه التشبيه أن للمنافق نورا بل وجه التشبيه بهذا المستوقد أنه لما زال النور عنه تحير والتحير فيمن كان في نور ثم زال عنه أشد من تحير سالك الطريق في ظلمة مستمرة لكنه تعالى ذكر النور في مستوقد النار لكي يصح أن يوصف بهذه الظلمة الشديدة لا أن وجه التشبيه مجمع النور والظلمة ورابعها أن الذي أظهروه يوهم أنه من باب النور الذي ينتفع به وذهاب النور هو ما يظهره لأصحابه من الكفر والنفاق ومن قال بهذا قال إن المثل إنما عطف على قوله وإذا لقوا الذين ءامنوا قالوا ءامنا وإذا خلوا إلى شيـاطينهم قالوا إنا معكم فالنار مثل لقولهم آمنا وذهابه مثل لقولهم للكفار إنا معكم فإن قيل وكيف صار ما يظهره المنافق من كلمة الإيمان مثلا بالنور وهو حين تكلم بها أضمر خلافها قلنا إنه لو ضم إلى القول اعتقادا له وعملا به لأتم النور لنفسه ولكنه لما لم يفعل لم يتم نوره وإنما سمى مجرد ذلك القول نورا لأنه قول حق في نفسه وخامسها يجوز أن يكون استيقاد النار عبارة عن إظهار المنافق كلمة الإيمان وإنما سماه نورا لأنه يتزين به ظاهره فيهم ويصير ممدوحا بسببه فيما بينهم ثم إن الله تعالى يذهب ذلك النور بهتك ستر المنافق بتعريف نبيه والمؤمنين حقيقة أمره فيظهر له اسم النفاق بدل ما يظهر منه من اسم الإيمان فبقي في ظلمات لا يبصر إذ النور الذي كان له قبل قد كشف الله أمره فزال وسادسها أنهم لما وصفوا بأنهم اشتروا الضلالة بالهدى عقب ذلك بهذا التمثيل ليمثل هداهم الذي باعوه بالنار المضيئة ما حول المستوقد والضلالة التي اشتروها وطبع بها على قلوبهم بذهاب الله بنورهم وتركه إياهم في الظلمات وسابعها يجوز أن يكون المستوقد ههنا مستوقد نار لا يرضاها الله تعالى والغرض تشبيه الفتنة التي حاول المنافقون إثارتها بهذه النار فإن الفتنة التي كانوا يثيرونها كانت قليلة البقاء ألا ترى إلى قوله تعالى كلما أوقدوا نارا للحرب أطفأها الله المائدة 64 وثامنها قال سعيد بن جبير نزلت في اليهود
السؤال الأول قوله تعالى مثلهم كمثل الذى استوقد نارا يقتضى تشبيه مثلهم بمثل المستوقد فما مثل المنافقين ومثل المستوقد حتى شبه أحدهما بالآخر والجواب استعير المثل للقصة أو للصفة إذا كان لها شأن وفيها غرابة كأنه قيل قصتهم العجيبة كقصة الذي استوقد نارا وكذا قوله مثل الجنة التى وعد المتقون الرعد 35 أي فيما قصصنا عليك من العجائب قصة الجنة العجيبة ولله المثل الاعلى النحل 60 أي الوصف الذي له شأن من العظمة والجلالة مثلهم فى التوراة الفتح 29 أي وصفهم وشأنهم المتعجب منه ولما في المثل من معنى الغرابة قالوا فلان مثله في الخير والشر فاشتقوا منه صفة للعجيب الشأن السؤال الثاني كيف مثلت الجماعة بالواحد والجواب من وجوه أحدها أنه يجوز في اللغة وضع الذي موضع الذين كقوله وخضتم كالذي خاضوا التوبة 69 وإنما جاز ذلك لأن الذي لكونه وصلة إلى وصف كل معرفة مجملة وكثرة وقوعه في كلامهم ولكونه مستطالا بصلته فهو حقيق بالتخفيف ولذلك أعلوه بالحذف فحذفوا ياءه ثم كسرته ثم اقتصروا فيه على اللام وحدها في أسماء الفاعلين والمفعولين وثانيها أن يكون المراد جنس المستوقدين أو أريد الجمع أو الفوج الذي استوقد نارا وثالثها وهو الأقوى أن المنافقين وذواتهم لم يشبهوا بذات المستوقد حتى يلزم منه تشبيه الجماعة بالواحد وإنما شبهت قصتهم بقصة المستوقد ومثله قوله تعالى مثل الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها كمثل الحمار الجمعة 5 وقوله ينظرون إليك نظر المغشى عليه من الموت محمد 20 ورابعها المعنى ومثل كل واحد منهم كقوله يخرجكم طفلا غافر 67 أي يخرج كل واحد منكم السؤال الثالث ما الوقود وما النار وما الإضاءة وما النور ما الظلمة الجواب أما وقود النار فهو سطوعها وارتفاع لهبها وأما النار فهو جوهر لطيف مضيء حار محرق واشتقاقها من نارينور إذا نفر لأن فيها حركة واضطرابا والنور مشتق منها وهو ضوؤها والمنار العلامة والمنارة هي الشيء الذي يؤذن عليه ويقال أيضا للشيء الذي يوضع السراج عليه ومنه النورة لأنها تطهر البدن والإضاءة فرط الإنارة ومصداق ذلك قوله تعالى هو الذى جعل الشمس ضياء والقمر نورا يونس 5 و أضاء يرد لازما ومتعديا تقول أضاء القمر الظلمة وأضاء القمر بمعنى استضاء قال الشاعر
فأضاءت لهم أحسابهم ووجوههم
دجى الليل حتى نظم الجزع ثاقبه
وأما ما حول الشيء فهو الذي يتصل به تقول دار حوله وحواليه والحول السنة لأنها تحول وحال عن العهد أي تغير وحال لونه أي تغير لونه والحوالة انقلاب الحق من شخص إلى شخص والمحاولة طلب الفعل بعد أن لم يكن طالبا له والحول انقلاب العين والحول الانقلاب قال الله تعالى لا يبغون عنها حولا والظلمة عدم النور عما من شأنه أن يستنير والظلمة في أصل اللغة عبارة عن النقصان قال الله تعالى اتت أكلها ولم تظلم منه شيئا الكهف 33 أي لم تنقص وفي المثل من أشبه أباه فما ظلم أي فما نقص حق الشبه والظلم الثلج لأنه ينتقص سريعا والظلم ماء السن وطراوته وبياضه تشبيها له بالثلج السؤال الرابع أضاءت متعدية أم لا الجواب كلاهما جائز يقال أضاءت النار بنفسها وأضاءت غيرها وكذلك أظلم الشيء بنفسه وأظلم غيره أي صيره مظلما وههنا الأقرب أنها متعدية ويحتمل أن تكون غير متعدية مستندة إلى ما حوله والتأنيث للحمل على المعنى لأن ما حول المستوقد أماكن وأشياء ويعضده قراءة ابن أبي عبلة ضاء السؤال الخامس هلا قيل ذهب الله بضوئهم لقوله فلما أضاءت الجواب ذكر النور أبلغ لأن الضوء فيه دلالة على الزيادة فلو قيل ذهب الله بضوئهم لأوهم ذهاب الكمال وبقاء ما يسمى نورا والغرض إزالة النور عنهم بالكلية ألا ترى كيف ذكر عقيبه وتركهم في ظلمـات لا يبصرون والظلمة عبارة عن عدم النور وكيف جمعها وكيف نكرها وكيف أتبعها ما يدل على أنها ظلمة خالصة وهو قوله لا يبصرون السؤال السادس لم قال ذهب الله بنورهم ولم يقل أذهب الله نورهم والجواب الفرق بين أذهب وذهب به أن معنى أذهبه أزاله وجعله ذاهبا ويقال ذهب به إذا استصحبه ومعنى به معه وذهب السلطان بماله أخذه قال تعالى فلما ذهبوا به يوسف 15 إذا لذهب كل إلـاه بما خلق المؤمنون 91 والمعنى أخذ الله نورهم وأمسكه وما يمسك فلا مرسل له فاطر 2 فهو أبلغ من الإذهاب وقرأ اليماني أذهب الله نورهم السؤال السابع ما معنى وتركهم والجواب ترك إذا علق بواحد فهو بمعنى طرح وإذا علق بشيئين كان بمعنى صير فيجري مجرى أفعال القلوب ومنه قوله وتركهم في ظلمـات أصله هم في ظلمات ثم دخل ترك فنصبت الجزئين السؤال الثامن لم حذف أحد المفعولين من لا يبصرون الجواب أنه من قبيل المتروك الذي لا يلتفت إلى إخطاره بالبال لا من قبيل المقدر المنوي كأن الفعل غير متعد أصلا
الدر المنثور – السيوطي ج1/ص80
في قوله مثلهم كمثل الذي استوقد نارا الآية
قال هذا ضربه الله للمنافقين كانوا يعتزون بالإسلام فيناكحم المسلمون ويوارثوهم ويقاسمونهم الفيء
فلما ماتوا سلبم الله العز كما سلب صاحب النار ضوءه وتركهم في ظلمات يقول في عذاب صم بكم عمي لا يسمعون الهدى ولايبصرونه ولا يعقلونه
الكشاف – الزمخشري ج1/ص109
مثلهم كمثل الذى استوقد نارا فلمآ أضاءت ما حوله ذهب الله بنورهم وتركهم في ظلمات لا يبصرون صم بكم عمى فهم لا يرجعون – 18
لما جاء بحقيقة صفتهم عقبها بضرب المثل زيادة في الكشف وتتميما للبيان
ولضرب العرب الأمثال وإستحضار العلماء المثل والنظائر شأن ليس بالخفي في إبراز خبيات المعاني ورفع الأستار عن الحقائق حتى تريك المتخيل في صورة المحقق والمتوهم في معرض المتيقن والغائب كأنه مشاهد
وفيه تبكيت للخصم الألد وقمع لسورة الجامح الأبي ولأمر ما اكثر الله في كتابه المبين وفي سائر كتبه أمثاله وفشت في كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم وكلام الأنبياء والحكماء
قال الله تعالى
وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها الا العالمون العنكبوت43 ومن سور الإنجيل سورة الأمثال
والمثل في اصل كلامهم بمعنى المثل وهو النظير
يقال مثل ومثل ومثيل كشبه وشبه وشبيه
ثم قيل للقول السائر الممثل مضربه بمورده
مثل ولم يضربوا مثلا ولا راوه أهلا للتسيير ولا جديرا بالتداول والقبول الا قولا فيه غرابة من بعض الوجوه
ومن ثم حوفظ عليه وحمى من التغيير
فإن قلت ما معنى
مثلهم كمثل الذي استوقد نارا
وما مثل المنافقين ومثل الذي استوقد نارا حتى شبه احد المثلين بصاحبه قلت قد استعير المثل استعارة الأسد للمقدام للحال او الصفة او القصة اذا كان لها شأن وفيها غرابة كانه قيل حالهم العجيبة الشأن كحال الذي استوقد نارا
وكذلك قوله
مثل الجنة التى وعد المتقون الرعد35 أي وفيما قصصنا عليك من العجائب قصة الجنة العجيبة
ثم أخذ في بيان عجائبها
ولله المثل الاعلى النحل 29 أي صفتهم وشأنهم المتعجب منه
ولما في المثل من معنى الغرابة قالوا فلان مثله في الخير والشر فاشتقوا منه صفة للعجيب الشأن
فإن قلت كيف مثلت الجماعة بالواحد قلت وضع الذي موضع الذين كقوله
وخضتم كالذي خاضوا التوبة69 والذي سوغ وضع الذي موضع الذين ولم يجز وضع القائم موضع القائمين ولا نحوه من الصفات أمران أحدهما ان الذي لكونه وصلة الى وصف كل معرفة بجملة وتكاثر وقوعه في كلامهم ولكونه مستطالا بصلته حقيق بالتخفيف ولذلك نهكوه بالحذف فحذفوا ياءه ثم كسرته ثم اقتصروا به على اللام وحدها في أسماء الفاعلين والمفعولين المستوقدين او اريد الجمع او الفوج الذي استوقد نارا
على أن المنافقين وذواتهم لم يشبهوا بذات المستوقد حتى يلزم منه تشبيه الجماعة بالواحد إنما شبهت قصتهم بقصة المستوقد
ونحوه قوله
مثل الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها كمثل الحمار يحمل أسفارا الجمعة 5 وقوله
ينظرون اليك نظر المغشي عليه من الموت محمد20
ووقود النار سطوعها وارتفاع لهبها ومن إخواته وقل في الجبل اذا صعد وعلا والنار جوهر لطيف مضيء حار محرق
والنور ضوءها وضوء كل نير وهو نقيض الظلمة
واشتقاقها من نار ينور اذا نفر لأن فيها حركة واضطرابا والنور مشتق منها والاضاءة فرط الانارة ومصداق ذلك قوله
هو الذي جعل الشمس ضياء والقمر نورا يونس5 وهي في الآية متعدية
ويحتمل أن تكون غير متعدية مسندة الى ما حوله والتانيث للحمل على المعنى لأن ما حول المستوقد اماكن وأشياء
ويعضده قراءة ابن ابي عبلة ضاءت وفيه وجه آخر وهو أن يستتر في الفعل ضمير النار
ويجعل اشراق ضوء النار حوله بمنزلة إشراق النار نفسها على ان ما مزيدة او موصولة في معنى الأمكنة و
حوله
نصب على الظرف وتأليفه للدوران والإطافة
وقيل للعام حول لأنه يدور فإن قلت أين جواب لما قلت فيه وجهان احدهما ان جوابه
ذهب الله بنورهم
والثاني انه محذوف كما حذف في قوله
فلما ذهبوا به يوسف15
وإنما جاز حذفه لاستطالة الكلام مع امن الالباس للدال عليه وكان الحذف اولى من الإثبات لما فيه من الوجازة مع الإعراب عن الصفة التي حصل عليها المستوقد بما هو أبلغ من اللفظ في أداء المعنى كانه قيل فلما أضاءت ما حوله خمدت فبقوا خابطين في ظلام متحيرين متحسرين على فوت الضوء خائبين بعد الكدح في إحياء النار
فإن قلت فإذا قدر الجواب محذوفا فبم يتعلق
ذهب الله بنورهم قلت يكون كلاما مستانفا
كأنهم لما شبهت حالهم بحال المستوقد الذي طفئت ناره اعترض سائل فقال ما بالهم قد أشبهت حالهم حال هذا المستوقد فقيل له ذهب الله بنورهم
أو يكون بدلا من جملة التمثيل على سبيل البيان فإن قلت قد رجع الضمير في هذا الوجه الى المنافقين فما مرجعه في الوجه الثاني قلت مرجعه الذي استوقد لأنه في معنى الجمع
واما جمع هذا الضمير وتوحيده في
حوله
فللحمل على اللفظ تارة وعلى المعنى أخرى
فإن قلت فما معنى إسناد الفعل الى الله تعالى في قوله
ذهب الله بنورهم
قلت اذا طفئت النار بسبب سماوي ريح او مطر فقد أطفأها الله تعالى وذهب بنور المستوقد
ووجه آخر وهو أن يكون المستوقد في هذا الوجه مستوقد نار لا يرضاها الله
ثم إما أن تكون نارا مجازية كنار الفتنة والعداوة للإسلام وتلك النار متقاصرة مدة اشتعالها قليلة البقاء
الا ترى إلى قوله
كلما اوقدوا نارا للحرب اطفأها الله المائدة64 وإما نارا حقيقية أوقدها الغواة ليتوصلوا بالاستضاءة بها الى بعض المعاصي ويتهدوا بها في طرق العبث فأطفأها الله وخيب امانيهم
فإن قلت كيف صح في النار المجازية ان توصف بإضاءة ما حول المستوقد قلت هو خارج على طريقة المجاز المرشح فأحسن تدبره
فإن قلت هلا قيل ذهب الله بضوئهم لقوله
فلما أضاءت
قلت ذكر النور أبلغ لأن الضوء فيه دلالة على الزيادة
فلو قيل ذهب الله بضوئهم لأوهم الذهاب بالزيادة وبقاء ما يسمى نورا والغرض إزالة النور عنهم رأسا وطمسه أصلا
ألا ترى كيف ذكر عقيبه
وتركهم في ظلمات
والظلمة عبارة عن عدم النور وانطماسه وكيف جمعها وكيف نكرها وكيف اتبعها ما يدل على انها ظلمة مبهمة لا يتراءى فيها شبحان وهو قوله
لا يبصرون
فإن قلت فلم وصفت بالإضاءة قلت هذا على مذهب قولهم للباطل صولة ثم يضمحل ولريح الضلالة عصفة ثم تخفت ونار العرفج مثل لنزوة كل طماح
والفرق بين اذهبه وذهب به ان معنى أذهبه ازاله وجعله ذاهبا
ويقال ذهب به اذا استصحبه ومضى به معه
وذهب السلطان بماله اخذه فلما ذهبوا به
اذا لذهب كل إلاه بما خلق المؤمنون91
ومنه ذهب به الخيلاء والمعنى أخذ الله نورهم وامسكه
وما يمسك فلا مرسل له فاطر2 فهو أبلغ من الإذهاب
وقرأ اليماني أذهب الله نورهم وترك بمعنى طرح وخلى اذا علق بواحد كقولهم تركه ترك ظبي ظله فإذا علق بشيئين كان مضمنا معنى صير فيجرى مجرى أفعال القلوب كقول عنترة
فتركته جزر السباع ينشنه
ومنه قوله
وتركهم في ظلمات
أصله هم في ظلمات ثم دخل ترك فنصب الجزأين
والظلمة عدم النور وقيل عرض ينافي النور واشتقاقها من قولهم ما ظلمك ان تفعل كذا أي ما منعك وشغلك لأنها تسد البصر وتمنع الرؤية
وقرأ الحسن ظلمات بسكون اللام وقرأ اليماني في ظلمة على التوحيد
والمفعول الساقط من لا يبصرون من قبيل المتروك المطرح الذي لا يلتفت الى إخطاره بالبال لا من قبيل المقدر المنوى كأن الفعل غير متعد أصلا نحو
يعمهون في قوله
ويذرهم في طغيانهم الأعراف186
فإن قلت فيم شبهت حالهم بحال المستوقد قلت في انهم غب الاضاءة خبطوا في ظلمة وتورطوا في حيرة
فإن قلت وأين الإضاءة في حال المنافق وهل هو أبدا الا حائر خابط في ظلماء الكفر قلت المراد ما استضاءوا به قليلا من الانتفاع بالكلمة المجرأة على ألسنتهم ووراء استضاءتهم بنور هذه الكلمة ظلمة النفاق التي ترمي بهم الى ظلمة سخط الله وظلمة العقاب السرمد
ويجوز ان يشبه بذهاب الله بنور المستوقد اطلاع الله على أسرارهم وما افتضحوا به بين المؤمنين واتسموا به من سمة النفاق
والأوجه ان يراد الطبع لقوله
صم بكم عمى
وفي الآية تفسير آخر وهو انهم لما وصفوا بأنهم اشتروا الضلالة بالهدى عقب ذلك بهذا التمثيل ليمثل هداهم الذي باعوه بالنار المضيئة ما حول المستوقد والضلالة التي اشتروها وطبع بها على قلوبهم بذهاب الله بنورهم وتركه إياهم في الظلمات
وتنكير النار للتعظيم كانت حواسهم سليمة ولكن لما سدوا عن الإصاخة إلى الحق مسامعهم وأبوا ان ينطقوا به ألسنتهم وان ينظروا ويتبصروا بعيونهم جعلوا كانما أيفت مشاعرهم وانتقضت بناها التى بنيت عليها للإحساس والإدراك كقوله
صم اذا سمعوا خيرا ذكرت به
وإن ذكرت بسوء عندهم أذنوا
أصم عما ساءه سميع
أصم عن الشيءا الذي لاأريده وأسمع خلق الله حين أريد
فاصممت عمرا واعميته
عن الجود والفخر يوم الفخار
فإن قلت كيف طريقته عند علماء البيان قلت طريقة قولهم هم ليوث للشجعان وبحور للأسخياء
الا ان هذا في الصفات وذاك في الأسماء وقد جاءت الاستعارة في الأسماء والصفات والأفعال جميعا
تقول رأيت ليوثا ولقيت صما عن الخير ودجا الإسلام وأضاء الحق فإن قلت هل يسمى ما في الآية استعارة قلت مختلف فيه والمحققون على تسميته تشبيها بليغا لا استعارة لأن المستعار له مذكور وهم المنافقون
والاستعارة إنما تطلق حيث يطوى ذكر المستعار له ويجعل الكلام خلوا عنه صالحا لأن يراد به المنقول عنه والمنقول اليه لولا دلالة الحال او فحوى الكلام كقول زهير
لدى أسد شاكى السلاح مقذف
له لبد أظفاره لم تقلم
ومن ثم ترى المفلقين السحرة منهم كانهم يتناسون التشبيه ويضربون عن توهمه صفحا
قال ابو تمام
ويصعد حتى يظن الجهول
بان له حاجة في السماء
وبعضهم
لا تحسبوا ان في سرباله رجلا
ففيه غيث وليث مسبل مشبل
وليس لقائل ان يقول طوى ذكرهم عن الجملة بحذف المبتدأ فأتسلق بذلك الى تسميته استعارة لأنه في حكم المنطوق به نظيره قول من يخاطب الحجاج
أسد علي وفي الحروب نعامة
فتخاء تنفر من صفير الصافر
ومعنى
لا يرجعون
أنهم لا يعودون الى الهدى بعد ان باعوه او عن الضلالة بعد ان اشتروها تسجيلا عليهم بالطبع أو أراد أنهم بمنزلة المتحيرين الذين بقوا جامدين في مكانهم لا يبرحون ولا يدرون أيتقدمون ام يتأخرون وكيف يرجعون إلى حيث ابتدءوا منه
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز – الأندلسي ج1/ص99
وقوله مثلهم رفع بالابتداء والخبر في الكاف وهي على هذا اسم كما هي في قول الأعشى
أتنتهون ولا ينهى ذوي شطط
كالطعن يذهب فيه الزيت والفتل
البسيط
ويجوز أن يكون الخبر محذوفا تقديره مثلهم مستقر كمثل فالكاف على هذا حرف ولا يجوز ذلك في بيت الأعشى لأن المحذوف فاعل تقديره شيء كالطعن والفاعل لا يجوز حذفه عند جمهور البصريين ويجوز حذف خبر الابتداء إذا كان الكلام دالا عليه وجوز الأخفش حذف الفاعل وأن يكون الكاف في بيت الأعشى حرفا ووحد الذي لأنه لم يقصد تشبيه الجماعة بالجماعة وإنما المقصد أن كل واحد من المنافقين فعله كفعل المستوقد و الذي أيضا ليس بإشارة إلى واحد ولا بد بل إلى هذا الفعل وقع من واحد أو من جماعة
قال النحويون الذي اسم مبهم يقع للواحد والجميع
و استوقد قيل معناه أوقد فذلك بمنزلة عجب واستعجب بمعنى
قال أبو علي وبمنزلة هزىء واستهزأ وسخر واستسخر وقر واستقر وعلا قرنه واستعلاه وقد جاء استفعل بمعنى أفعل أجاب واستجاب ومنه قول الشاعر كعب بن سعد الغنوي
فلم يستجبه عند ذاك مجيب
الطويل
وأخلف لأهله واستخلف إذا جلب لهم الماء ومنه قول الشاعر
ومستخلفات من بلاد تنوفة
لمصفرة الأشداق حمر الحواصل
الطويل
ومنه قول الآخر
سقاها فرواها من الماء مخلف
الطويل
ومنه أوقد واستوقد قاله أبو زيد وقيل استوقد يراد به طلب من غيره أن يوقد له على المشهور من باب استفعل وذلك يقتضي حاجته إلى النار فانطفاؤها مع حاجته إليها أنكى له
واختلف في أضاءت فقيل يتعدى لأنه نقل بالهمزة من ضاء ومنه قول العباس بن عبد المطلب في النبي صلى الله عليه وسلم
وأنت لما ولدت أشرقت الأرض
وضاءت بنورك الطرق
المنسرح
واختلف المتأولون في فعل المنافقين الذي يشبه فعل الذي استوقد نارا
فقالت طائفة هي فيمن آمن ثم كفر بالنفاق فإيمانه بمنزلة النار إذا أضاءت وكفره بعد بمنزلة انطفائها وذهاب النور
وقال الحسن بن أبي الحسن وغيره إن ما يظهر المنافق في الدنيا من الإيمان فيحقن به دمه ويحرز ماله ويناكح ويخالط كالنار التي أضاءت ما حوله فإذا مات صار إلى العذاب الأليم فذلك بمنزلة انطفائها وبقائه في الظلمات
وقالت فرقة إن إقبال المنافقين إلى المسلمين وكلامهم معهم كالنار وانصرافهم إلى مردتهم وارتكاسهم عندهم كذهابها
وقالت فرقة إن المنافقين كانوا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين في منزلة بما أظهروه فلما فضحهم الله وأعلم بنفاقهم سقطت المنزلة فكان ذلك كله بمنزلة النار وانطفائها
وقالت فرقة منهم قتادة نطقهم ب لا إله إلا الله والقرآن كإضاءة النار واعتقادهم الكفر بقلوبهم كانطفائها
قال الجمهور النحاة جواب لما ذهب ويعود الضمير من نورهم في هذا القول على الذي ويصح شبه الآية بقول الشاعر الأشهب بن رميلة
وإن الذي حانت بفلج دماؤهم
هم القوم كل القوم يا أم خالد
الطويل
وعلى هذا القول يتم تمثيل المنافق بالمستوقد لأن بقاء المستوقد في ظلمات لا يبصر كبقاء المنافق على الاختلاف المتقدم
وقال قوم جواب لما مضمر وهو طفئت والضمير في نورهم على هذا للمنافقين والإخبار بهذا هو عن حال تكون في الآخرة وهو قوله تعالى فضرب بينهم بسور له باب الحديد 13
قال القاضي أبو محمد وهذا القول غير قوي وقرأ الحسن بن أبي الحسن وأبو السمال في ظلمات بسكون اللام وقرأ قوم ظلمات بفتح اللام
قال أبو الفتح في ظلمات وكسرات ثلاث لغات اتباع الضم الضم والكسر الكسر أو التخفيف بأن يعدل إلى الفتح في الثاني أو التخفيف بأن يسكن الثاني وكل ذلك جائز حسن فأما فعلة بالفتح فلا بد فيه من التثقيل إتباعا فتقول ثمرة وثمرات
قال القاضي أبو محمد وذهب قوم في ظلمات بفتح اللام إلى أنه جمع ظلم فهو جمع الجمع والأصم الذي لا يسمع والأبكم الذي لا ينطق ولا يفهم فإذا فهم فهو الأخرس وقيل الأبكم والأخرس واحد ووصفهم بهذه الصفات إذ أعمالهم من الخطأ وقلة الإجابة كأعمال من هذه صفته وصم رفع على خبر ابتداء فإما أن يكون ذلك على تقدير تكرار أولئك وإما على إضمار هم
وقرأ عبد الله بن مسعود وحفصة أم المؤمنين رضي الله عنهما
صما بكما عميا بالنصب ونصبه على الحال من الضمير في مهتدين وقيل هو نصب على الذم وفيه ضعف وأما من جعل الضمير في نورهم للمنافقين لا للمستوقدين فنصب هذه الصفات على قوله على الحال من الضمير في تركهم
قال بعض المفسرين قوله تعالى فهم لا يرجعون إخبار منه تعالى أنهم لا يؤمنون بوجه
قال القاضي أبو محمد وإنما كان يصح هذا إن لو كانت الآية في معينين وقال غيره معناه فهم لا يرجعون ما داموا على الحال التي وصفهم بها وهذا هو الصحيح لأن الآية لم تعين وكلهم معرض للرجوع مدعو إليه
تفسير أبي السعود ج1/ص50
مثلهم زيادة كشف لحالهم وتصوير لها غب تصويرها بصورة ما يؤدي إلى الخساربحسب المآل بصورة ما يفضي إلى الخسار من حيث النفس تهويلا لها وإبانة لفظاعتها فإن التمثيل ألطف ذريعة إلى تسخير الوهم للعقل واستنزاله من مقام الاستعصاء عليه وأقوى وسيلة إلى تفهيم الجاهل الغبي وقمع سورة الجامع الأبي كيف لا وهو رفع الحجاب عن وجوه المعقولات الخفية وأبراز لها في معرض المحسوسات الجلية وإبداء للمنكر في صورة المعروف وإظهار للوحشى في هيئة المألوف والمثل في الأصل بمعنى المثل والنظير يقال مثل ومثل ومثيل كشبه وشبه وشبيه ثم أطلق على القول السائر الذي يمثل مضربه بمورده وحيث لم يكن ذلك إلا قولا بديعا فيه غرابة صيرته جديرا بالتسيير في البلاد وخليقا بالقبول فيما بين كل حاضر وباد استعير لكل حال أو صفة أو قصة لها شأن عجيب وخطر غريب من غير أن يلاحظ بينها وبين شيء آخر تشبيه ومنه قوله عز وجل ولله المثل الأعلى أي الوصف الذي له شأن عظيم وخطر جليل وقوله تعالى مثل الجنة التي وعد المتقون أي قصتها العجيبة الشأن كمثل الذي أي الذين كما في قوله تعالى وخضتم كالذي خاضوا خلا أنه وحد الضمير في قوله تعالى استوقد نارا نظرا إلى الصورة وإنما جاز ذلك مع عدم جواز وضع القائم مقام القائمين لأن المقصود بالوصف هي الجملة الواقعة صلة له دون نفسه بل إنما هو وصلة لوصف المعارف بها ولأنه حقيق بالتخفيف لإستطالته بصلته ولذلك بولغ فيه فحذف ياؤه ثم كسرته ثم اقتصر على اللام في أسماء الفاعلين والمفعولين ولأنه ليس باسم تام بل هو كجزئه فحقه ان لايجمع ويستوي فيه الواحد والمتعدد كما هو شأن أخواته وليس الذين جمعه المصحح بل النون فيه مزيدة للدلالة على زيادة المعنى ولذلك جاء بالياء أبدا على اللغة الفصيحة أو قصد به جنس المستوقد أو الفوج أو الفريق المستوقد والنار جوهر لطيف مضيء حار محرق واشتقاقها من نارينور إذا نفر لأن فيها حركة واضطرابا واستيقادها طلب وقودها أي سطوعها وارتفاع لهبها وتنكيرها للتفخيم فلما أضاءت ما حوله الإضاءة فرط الانارة كما يعرب عنه قوله تعالى هو الذي جعل الشمس ضياء والقمر نورا وتجيء متعدية ولازمة والفاء للدلالة على ترتبها على الاستيقاد أي فلما أضاءت النار ما حول المستوقد أو فلما أضاء ما حوله والتأنيث لكونه عبارة عن الاماكن والأشياء أو أضاءت النار نفسها فيما حوله على أن ذلك ظرف لإشراق النار المنزل منزلتها لا لنفسها أو ما مزيدة وحوله ظرف وتأليف الحول للدوران وقيل للعام حول لأنه يدور ذهب الله بنورهم النور ضوء كل نير واشتقاقه من النار والضمير للذي والجمع باعتبار المعنى أي أطفأ الله نارهم التي هي مدار نورهم وإنما علق الإذهاب بالنور دون نفس النار لأنه المقصود بالإستيقاد لاالاستدفاء ونحوه كما ينبئ عنه قوله تعالى فلما أضاءت حيث لم يقل فلما شب ضرامها أو نحو ذلك وهو جواب لما أو استئناف أجيب به عن سؤال سائل يقول
والظلمة مأخوذة من قولهم ما ظلمك ان تفعل كذا أي ما منعك لأنها تسد البصر وتمنعه من الرؤية وقرئ في ظلمات بسكون اللام وفي ظلمة بالتوحيد ومفعول لا يبصرون من قبيل المطروح كأن الفعل غير متعد والمعنى ان حالهم العجيبة التي هي اشتراؤهم الضلالة التي هي عبارة عن ظلمتي الكفر والنفاق المستتبعين لظلمة سخط الله تعالى وظلمة يوم القيامة يوم ترى المؤمنين والمؤمنات يسعى نورهم بين ايديهم وبأيمانهم وظلمة العقاب السرمدي بالهدى الذي هو النور الفطري المؤيد بما شاهدوه من دلائل الحق او بالهدى الذي كانوا حصلوه من التوراة حسبما ذكر كحال من استوقد نارا عظيمة حتى يكاد ينتفع بها فأطفاها الله تعالى وتركه في ظلمات هائلة لا يتسنى فيها الإبصار صم بكم عمي اخبار لمبتدأ محذوف هو ضمير المنافقين او خبر واحد بالتأويل المشهور كما في قولهم هذا حلو حامض والصمم آفة مانعة من السماع واصله الصلابة واكتناز الاجزاء ومنه الحجر الاصم والقناة الصماء وصمام القارورة سدادها سمى به فقدان حاسة السمع لما ان سببه اكتناز باطن الصماخ وانسداد منافذه بحيث لا يكاد يدخله هواء يحصل الصوت بتموجه والبكم الخرس والعمي عدم البصر عما من شأنه ان يبصر وصفوا بذلك مع سلامة مشاعرهم المعدودة لما انهم حيث سدوا مسامعهم عن الإصاخة لما يتلى عليهم من الآيات والذكر الحكيم وابوا ان يتلقوها بالقبول وينطقوا بها السنتهم ولم يجتلوا ما شاهدوا من المعجزات الظاهرة على يدي رسول
تفسير ابن كثير ج1/ص54
اشترائهم الضلالة بالهدى وصيرورتهم بعد البصيرة إلى العمى بمن استوقد نارا فلما أضاءت ماحوله وانتفع بها وأبصر بها ما عن يمينه وشماله وتأنس بها فبينا هو كذلك إذ طفئت ناره وصار في ظلام شديد لا يبصر ولا يهتدي وهو مع هذا فهو أصم لا يسمع أبكم لا ينطق أعمى لو كان ضياء لما أبصر فلهذا لا يرجع إلى ما كان عليه قبل ذلك فكذلك هؤلاء المنافقون في استبدالهم الضلالة عوضا عن الهدى واستحبابهم الغي على الرشد وفي هذا المثل دلالة على أنهم آمنوا ثم كفروا كما أخبر تعالى عنهم في غير هذا الموضع والله أعلم وقد حكى هذا الذي قلناه الرازي في تفسيره عن السدي ثم قال والتشبيه ها هنا في غاية الصحة لأنهم بإيمانهم اكتسبوا أولا نورا ثم بنفاقهم ثانيا أبطلوا ذلك فوقعوا في حيرة عظيمة فإنه لا حيرة أعظم من حيرة الدين وزعم بن جرير أن المضروب لهم المثل ها هنا لم يؤمنوا في وقت من الأوقات واحتج بقوله تعالى ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين والصواب أن هذا إخبار عنهم في حال نفاقهم وكفرهم وهذا لا ينفي أنه كان حصل لهم إيمان قبل ذلك ثم سلبوه وطبع على قلوبهم ولم يستحضر بن جرير هذه الآية ها هنا وهي قوله تعالى ذلك بأنهم آمنوا ثم كفروا فطبع على قلوبهم فهم لا يفقهون فلهذا وجه هذا المثل بأنهم استضاءوا بما أظهروه من كلمة الإيمان أي في الدنيا ثم أعقبهم ظلمات يوم القيامة قال وصح ضرب مثل الجماعة بالواحد كما قال رأيتهم ينظرون إليك تدور أعينهم كالذي يغشى عليه من الموت أي كدوران الذي يغشى عليه من الموت وقال تعالى ما خلقكم ولا بعثكم إلا كنفس واحدة وقال تعالى مثل الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها كمثل الحمار يحمل أسفارا وقال بعضهم تقدير الكلام مثل قصتهم كقصة الذين استوقدوا نارا وقال بعضهم المستوقد واحد لجماعة معه وقال آخرون الذي ها هنا بمعنى الذين كما قال الشاعر
وإن الذي حانت بفلج دماؤهم هم القوم كل القوم يا أم خالد
قلت وقد التفت في أثناء المثل من الواحد إلى الجمع في قوله تعالى فلما أضاءت ما حوله ذهب الله بنورهم وتركهم في ظلمات لا يبصرون صم بكم عمي فهم لا يرجعون وهذا أفصح في الكلام وأبلغ في النظام وقوله تعالى ذهب الله بنورهم أي ذهب عنهم بما ينفعهم وهو النور وأبقى لهم ما يضرهم وهو الإحراق والدخان وتركهم في ظلمات وهو ما هم فيه من الشك والكفر والنفاق لا يبصرون لا يهتدون إلى سبيل خير ولا يعرفونها وهم مع ذلك صم لا يسمعون خيرا بكم لا يتكلمون بما ينفعهم عمي في ضلالة وعماية البصيرة كما قال تعالى فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور فلهذا لا يرجعون إلى ماكانوا عليه من الهداية التي باعوها بالضلالة ذكر أقوال المفسرين من السلف بنحو ما ذكرناه قال السدي في تفسيره عن أبي مالك وعن أبي صالح عن بن عباس وعن مرة الهمداني عن بن مسعود وعن ناس من الصحابة في قوله تعالى فلما أضاءت ما حوله زعم أن ناسا دخلوا في الإسلام مقدم نبي الله صلى الله عليه وسلم المدينة ثم إنهم نافقوا وكان مثلهم كمثل رجل كان في ظلمة فأوقد نارا فلما أضاءت ما حوله من قذى أو أذى فأبصره حتى عرف ما يتقي منه فبينما هو كذلك إذ طفئت ناره فأقبل لا يدري ما يتقي من أذى فذلك المنافق كان في ظلمة الشرك فأسلم فعرف الحلال والحرام والخير والشر فبينما هو كذلك إذ كفر فصار لا يعرف الحلال من الحرام ولا الخير من الشر وقال العوفي عن بن عباس في هذه الآية قال أما النور فهو إيمانهم الذي كانوا يتكلمون به وأما الظلمة فهي ضلالتهم وكفرهم الذي كانوا يتكلمون به وهم قوم كانوا على هدى ثم نزع منهم فعتوا بعد ذلك وقال مجاهد فلما أضاءت ما حوله أما إضاءة النار فإقبالهم إلى المؤمنين والهدى وقال عطاء الخرساني في قوله تعالى مثلهم كمثل الذي استوقد نارا قال هذا مثل المنافق يبصر أحيانا ويعرف أحيانا ثم يدركه عمى القلب وقال بن أبي حاتم وروي عن عكرمة والحسن والسدي والربيع بن أنس نحو قول عطاء الخرساني وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم في قوله تعالى مثلهم كمثل الذي استوقد نارا قال هذا مثل المنافق يبصر أحيانا ويعرف أحيانا ثم يدركه عمى القلب وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم في قوله تعالى مثلهم كمثل الذي استوقد نارا إلى آخر الآية قال هذه صفة المنافقين كانوا قد آمنوا حتى أضاء الإيمان في قلوبهم كما أضاءت النار لهؤلاء الذين استوقدوا نارا ثم كفروا فذهب الله بنورهم فانتزعه كما ذهب بضوء هذه النار فتركهم في ظلمات لا يبصرون وأما قول بن جرير فيشبه مارواه علي بن أبي طلحة عن بن عباس في قوله تعالى مثلهم كمثل الذي استوقد نارا قال هذا مثل ضربة الله للمنافقين أنهم كانوا يعتزون بالإسلام فيناكحهم المسلمون ويوارثونهم ويقاسمونهم الفيء فلما ماتوا سلبهم الله ذلك العز كما سلب صاحب النار ضوءه وقال أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس عن أبي العالية مثلهم كمثل الذي استوقد نارا فإنما ضوء النار ما أوقدتها فإذا خمدت ذهب نورها وكذلك المنافق كلما تكلم بكلمة الاخلاص بلا إله إلا الله أضاء له فإذا شك وقع في الظلمة وقال الضحاك ذهب الله بنورهم أما نورهم فهو إيمانهم الذي تكلموا به وقال عبد الرزاق عن معمر عن قتادة مثلهم كمثل الذي استوقد نارا فلما أضاءت ما حوله فهي لا إله إلا الله أضاءت لهم فأكلوا بها وشربوا وآمنوا في الدنيا وأنكحوا النساء وحقنوا دماءهم حتى إذا ماتوا ذهب الله بنورهم وتركهم في ظلمات لا يبصرون وقال سعيد عن قتادة في هذه الآية إن المعنى أن المنافق تكلم بلا إله إلا الله فأضاءت له في الدنيا فناكح بها المسلمين وغازاهم بها ووارثهم بها وحقن بها دمه وماله فلما كان عند الموت سلبها المنافق لأنه لم يكن لها أصل في قلبه ولا حقيقة في عمله وتركهم في ظلمات لا يبصرون قال علي بن أبي طلحة عن بن عباس وتركهم في ظلمات لا يبصرون يقول في عذاب إذا ماتوا وقال محمد بن إسحاق عن محمد بن أبي محمد عن عكرمة أو سعيد بن جبير عن بن عباس وتركهم في ظلمات أي يبصرون الحق ويقولون به حتى إذا خرجوا من ظلمة الكفر أطفئوه بكفرهم ونفاقهم فيه فتركهم في ظلمات الكفر فهم لا يبصرون هدى ولا يستقيمون على حق وقال السدي في تفسيره بسنده وتركهم في ظلمات فكانت الظلمة نفاقهم وقال الحسن البصري وتركهم في ظلمات لا يبصرون فذلك حين يموت المنافق فيظلم عليه عمله عمل السوء فلا يجد له عملا من خير عمل به يصدق به قول لا إله إلا الله صم بكم عمي قال السدي بسنده صم بكم عمي فهم خرس عمي وقال علي بن أبي طلحة عن بن عباس صم بكم عمي يقول لا يسمعون الهدى ولا يبصرونه ولا يعقلونه وكذا قال أبو العالية وقتادة بن دعامة فهم لا يرجعون قال بن عباس أي لا يرجعون إلى هدى وكذا قال الربيع بن أنس وقال السدي بسنده صم بكم عمي فهم لا يرجعون إلى الإسلام وقال قتادة فهم لا يرجعون أي لا يتوبون ولا هم يذكرون
تفسير البغوي ج1/ص52
مثلهم شبههم وقيل صفتهم والمثل قول سائر في عرف الناس يعرف به منه الشيء وهو أحد أقسام القرآن السبعة كمثل الذي يعني الذين بدليل سياق الآية ونظيره والذي جاء بالصدق وصدق به أولئك هم المتقون استوقد نارا أوقد نارا فلما أضاءت النار ما حوله أي حول المستوقد وأضاء لازم ومتعد يقال أضاء الشيء بنفسه واضاء غيره وهو هنا متعد ذهب الله بنورهم وتركهم في ظلمات لا يبصرون قال ابن عباس وقتادة ومقاتل والضحاك والسدي نزلت في المنافقين يقول مثلهم في نفاقهم كمثل رجل أوقد نارا في ليلة مظلمة في مفازة فاستدفأ ورأى ما حوله فاتقى مما يخاف فبينما هو كذلك إذ طفئت ناره فبقي في ظلمة خائفا متحيرا فكذلك المنافقون بإظهار كلمة الإيمان أمنوا على أموالهم وأولادهم وناكحوا المؤمنين ووارثوهم وقاسموهم الغنائم فذلك نورهم فإذا ماتوا عادوا إلى الظلمة والخوف وقيل ذهاب نورهم في القبر وقيل في القيامة حيث يقولون للذين آمنوا انظرونا نقتبس من نوركم وقيل ذهاب نورهم بإظهار عقيدتهم على لسان النبي صلى الله عليه وسلم فضرب النار مثلا ثم لم يقل أطفأ الله نارهم لكن عبر بإذهاب النور عنه لأن النور نور وحرارة فيذهب نورهم وتبقى الحرارة عليهم وقال مجاهد إضاءة النار إقبالهم إلى المسلمين والهدى وذهاب نورهم إقبالهم إلى المشركين والضلالة وقال عطاء ومحمد بن كعب نزلت في اليهود وانتظارهم خروج النبي صلى الله عليه وسلم واستفتاحهم به على مشركي العرب فلما خرج كفروا به ثم وصفهم الله فقال 18 صم أي هم صم عن الحق لا يقبلونه وإذا لم يقبلوا فكأنهم لم يسمعوا بكم خرس عن الحق لا يقولونه أو أنهم لما أبطنوا خلاف ما أظهروا فكأنهم لم ينطقوا بالحق عمي أي لا بصائر لهم ومن لا بصيرة له كمن لا بصر له فهم لا يرجعون عن الضلالة إلى الحق
تفسير البيضاوي ج1/ص186
مثلهم كمثل الذي استوقد نارا لما جاء بحقيقة حالهم عقبها بضرب المثل زيادة في التوضيح والتقرير فإنه أوقع في القلب وأقمع للخصم الألد لأنه يريك المتخيل محققا والمعقول محسوسا ولأمر ما أكثر الله في كتبه الأمثال وفشت في كلام الأنبياء والحكماء والمثل في الأصل بمعنى النظير يقال مثل ومثل ومثيل كشبه وشبه وشبيه ثم قيل للقول السائر الممثل مضربه بمورده ولا يضرب إلا ما فيه غرابة ولذلك حوفظ عليه من التغيير ثم استعير لكل حال أو قصة أو صفة لها شأن وفيها غرابة مثل قوله تعالى مثل الجنة التي وعد المتقون وقوله تعالى ولله المثل الأعلى والمعنى حالهم العجيبة الشأن كحال من استوقد نارا والذي بمعنى الذين كما في قوله تعالى وخضتم كالذي خاضوا إن جعل مرجع الضمير في بنورهم وإنما جاز ذلك ولم يجز وضع القائم موضع القائمين لأنه غير مقصود بالوصف بل الجملة التي هي
تفسير الثعالبي ج1/ص34
مثلهم كمثل الذي استوقد نارا إلى قوله يا أيها الناس قال الفخر اعلم أن المقصود من ضرب المثال أنه يؤثر في القلوب يشبه فعل الذي استوقد نارا فقالت فرقة هي فيمن كان آمن ثم كفر بالنفاق فإيمانه بمنزلة النار أضاءت وكفره بعد بمنزلة انطفائها وذهاب النور وقالت فرقة منهم قتادة نطقهم بلا اله إلا الله والقرآن كإضاءة النار واعتقادهم الكفر بقلوبهم كانطفائها قال جمهور النحاة جواب لما ذهب ويعود الضمير من نورهم على الذي وعلى هذا القول يتم تمثيل المنافق بالمستوقد لأن بقاء المستوقد في ظلمات لا يبصر كبقاء المنافق على الخلاف المتقدم وقال قوم جواب لما مضمر وهو ظفئت فالضمير في نورهم على هذا للمنافقين والإخبار بهذا هو عن حال لهم تكون في الآخرة وهو قوله تعالى فضرب بينهم بسور له باب الآية وهذا القول غير قوي والأصم الذي لا يسمع والأبكم الذي لا ينطق ولا يفهم فإذا فهم فهو الأخرس وقيل الأبكم والأخرس واحد ووصفهم بهذه الصفات إذ أعمالهم من الخطأ عدم الإجابة كأعمال من هذه صفته وصم رفع على خبر الابتداء إما على تقدير تكرير أولئك أو إضمارهم وقوله تعالى فهم لا يرجعون قيل معناه لا يؤمنون بوجه وهذا إنما يصح أن لو كانت الآية في معينين وقيل معناه فهم لا يرجعون ما داموا على الحال التي وصفهم بها وهذا هو الصحيح
تفسير السعدي ج1/ص44
أي مثلهم المطابق لما كانوا عليه كمثل الذي استوقد نارا أي كان في ظلمة عظيمة وحاجة إلى النار شديدة فاستوقدها من غيره ولم تكن عنده معدة بل هي خارجة عنه فلما أضاءت النار ما حوله ونظر المحل الذي هو فيه وما فيه من المخاوف وأمنها وانتفع بتلك النار وقرت بها عينه وظن أنه قادر عليها فبينما هو كذلك إذ ذهب الله بنوره فزال عنه النور وذهب معه السرور وبقي في الظلمة العظيمة والنار المحرقة فذهب ما فيها من الإشراق وبقي ما فيها من الإحراق فبقي في ظلمات متعددة ظلمة الليل وظلمة السحاب وظلمة المطر والظلمة الحاصلة بعد النور فكيف يكون حال هذا الموصوف فكذلك هؤلاء المنافقون استوقدوا نار الإيمان من المؤمنين ولم تكن صفة لهم فانتفعوا بها وحقنت بذلك دماؤهم وسلمت أموالهم وحصل لهم نوع من الأمن في الدنيا فبينما هم على ذلك إذ هجم عليهم الموت فسلبهم الانتفاع بذلك النور وحصل لهم كل هم وغم وعذاب وحصل لهم ظلمة القبر وظلمة الكفر وظلمة النفاق وظلمة المعاصي على اختلاف أنواعها وبعد ذلك ظلمة النار وبئس القرار فلهذا قال تعالى عنهم صم أي عن سماع الخير بكم أي عن النطق به عمي أي عن رؤية الحق فهم لا يرجعون لأنهم تركوا الحق بعد أن عرفوه فلا يرجعون إليه بخلاف من ترك الحق عن جهل وضلال فإنه لا يعقل وهو أقرب رجوعا منهم
تفسير السمرقندي ج1/ص57
قوله تعالى مثلهم كمثل الذي استوقد نارا روى معاوية بن طلح عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال نزلت هذه الآية في شأن اليهود الذين هم حوالي المدينة فقال مثلهم كمثل الذي استوقد نارا فلما أضاءت يعني كمثل من كان في المفازة في الليلة المظلمة وهو يخاف السباع فأوقد نارا فأمن بالنار من السباع فلما أضاءت ما حوله ذهب الله بنورهم طفئت ناره وبقي في ظلمة كذلك اليهود الذين كانوا حوالي المدينة كانوا يقرون بالنبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يخرج وكانوا إذا حاربوا أعداءهم من المشركين يستنصرون باسمه ويقولون بحق نبيك محمد أن تنصرنا فلما خرج النبي صلى الله عليه وسلم وقدم المدينة حسدوه وكذبوه وكفروا به فطفئت نارهم وبقوا في ظلمات الكفر
وقال مقاتل نزلت في المنافقين يقول مثل المنافق مع النبي صلى الله عليه وسلم كمثل رجل في مفازة فأوقد نارا ليأمن بها على نفسه وعياله وماله فكذلك المنافق يتكلم بلا إله إلا الله مراءاة للناس فيأمن بها على نفسه وعياله وماله ويناكح مع المسلمين فكان له نورا بمنزلة المستوقد النار يمشي في ضوئها ما دامت ناره تتقد فلما أضاءت النار أبصر ما حوله بنورها وذهب نورها فبقي في ظلمة
قوله تعالى ذهب الله بنورهم أي يذهب الله بنور الإيمان الذي يتكلم به وتركهم في ظلمات لا يبصرون الهدى فكذلك المنافق إذا بلغ آخر عمره بقي في ظلمة كفره وهكذا فسر قتادة والقتبي وغيرهما
تفسير السمعاني ج1/ص52
مثلهم كمثل الذي استوقد نارا فلما أضاءت ما ربحت تجارتهم أي فما ربحوا في تجارتهم وما كانوا مهتدين
قوله ـ تعالى ـ مثلهم كمثل الذي استوقد نارا الآية المثل قول سائر في عرف الناس يعرف به معنى الشيء من الشيء وهذا أحد أقسام القرآن فإن القرآن على سبعة أقسام
وقيل مثلهم أي صفتهم كمثل الذي استوقد نارا أوقد النار واستوقد بمعنى واحد كما يقال أجاب واستجاب
وقيل أوقد إذا فعل بنفسه واستوقد إذا طلب الإيقاد من غيره فلما أضاءت ما حوله يعنى أضاءت النار الموقدة حول المستوقد ضربه مثلا للمنافقين ومعنى هذا المثل ـ قوله تعالى كمثل الذي استوقد نارا ـ ضربه مثلا لما أظهروا باللسان من الإسلام
فلما أضاءت ما حوله يعنى ما استفادوا بذلك الإسلام الظاهر من التجمل والعز والأمان في الدنيا
ذهب الله بنورهم قيل فيه معان أحدها ذهب الله بما أظهروا من الإسلام بإظهار عقيدتهم على لسان النبي وقيل معناه ذهب الله بنورهم يعنى في القبر وقيل في القيامة يعنى أن ما استفادوا به في الدنيا لا ينفعهم في الآخرة إذا كان مصيرهم إلى النار
فإن قال قائل كيف قال ذهب الله بنورهم ولا نور لهم وقال في موضع آخر يخرجهم من الظلمات إلى النور ولا نور لهم قيل أراد به نور ما أظهروا من الإسلام وذلك نوع نور
وقيل قد يذكر مثله على معنى الحرمان كما يقال أخرجتني من صلتك وإن لم حوله ذهب الله بنورهم وتركهم في ظلمات لا يبصرون 17 صم بكم عمي فهم لا يرجعون
تفسير الصنعاني ج1/ص39
وحدثنا الحسن بن يحيى قال أخبرنا عبد الرازق قال أخبرنا معمر عن قتادة مثلهم كمثل الذي استوقد نارا فلما أضاءت ما حوله هي لا إله إلا الله أضاءت لهم فأكلوا بها وشربوا وأمنوا في الدنيا ونكحوا النساء وحقنوا بها دماءهم حتى إذا ماتوا ذهب الله بنورهم وتركوا في ظلمات لا يبصرون
تفسير الطبري ج1/ص140
القول في تأويل قوله تعالى مثلهم كمثل الذي استوقد نارا فلما أضاءت ما حوله ذهب الله بنورهم وتركهم في ظلمات لا يبصرون قال أبو جعفر فإن قال لنا قائل وكيف قيل مثلهم كمثل الذي استوقد نارا وقد علمت أن الهاء والميم من قوله مثلهم كناية جماعة من الرجال أو الرجال والنساء
والذي دلالة على واحد من الذكور فكيف جعل الخبر عن واحد مثلا لجماعة وهلا قيل مثلهم كمثل الذين استوقدوا نارا وإن جاز عندك أن تمثل الجماعة بالواحد فتجيز لقائل رأى جماعة من الرجال فأعجبته صورهم وتمام خلقهم وأجسامهم أن يقول كأن هؤلاء أو كأن أجسام هؤلاء نخلة
قيل أما في الموضع الذي مثل ربنا جل ثناؤه جماعة من المنافقين بالواحد الذي جعله لأفعالهم مثلا فجائز حسن وفي نظائره كما قال جل ثناؤه في نظير ذلك تدور أعينهم كالذي يغشى عليه من الموت يعني كدوران عين الذي يغشى عليه من الموت وكقوله ما خلقكم ولا بعثكم إلا كنفس واحدة بمعنى إلا كبعث نفس واحدة
وأما في تمثيل أجسام الجماعة من الرجال في طول وتمام الخلق بالواحدة من النخيل فغير جائز ولا في نظائره لفرق بينهما
فأما تمثيل الجماعة من المنافقين بالمستوقد الواحد فإنما جاز لأن المراد من الخبر عن مثل المنافقين الخبر عن مثل استضاءتهم بما أظهروا بألسنتهم من الإقرار وهم لغيره مستبطنون من اعتقاداتهم الرديئة وخلطهم نفاقهم الباطن بالإقرار بالإيمان الظاهر
والاستضاءة وإن اختلفت أشخاص أهلها معنى واحد لا معان مختلفة
فالمثل لها في معنى المثل للشخص الواحد من الأشياء المختلفة الأشخاص
وتأويل ذلك مثل استضاءة المنافقين بما أظهروه من الإقرار بالله وبمحمد وبما جاء به قولا وهم به مكذبون اعتقادا كمثل استضاءة الموقد نارا
ثم أسقط ذكر الاستضاءة وأضيف المثل إليهم كما قال نابغة بني جعدة وكيف تواصل من أصبحت خلالته كأبي مرحب يريد كخلالة أبي مرحب فأسقط خلالة إذ كان فيما أظهر من الكلام دلالة لسامعيه على ما حذف منه فكذلك القول في قوله مثلهم كمثل الذي استوقد نارا لما كان معلوما عند سامعيه بما أظهر من الكلام أن المثل إنما ضرب لاستضاءة القوم بالإقرار دون أعيان أجسامهم حسن حذف ذكر الاستضاءة وإضافة المثل إلى أهله
والمقصود بالمثل ما ذكرنا فلما وصفنا جاز وحسن قوله مثلهم كمثل الذي استوقد نارا ويشبه مثل الجماعة في اللفظ بالواحد إذ كان المراد بالمثل الواحد في المعنى
وأما إذا أريد تشبيه الجماعة من أعيان بني آدم أو أعيان ذوي الصور والأجسام بشيء فالصواب من الكلام تشبيه الجماعة بالجماعة والواحد بالواحد لأن عين كل واحد منهم غير أعيان الآخرين
ولذلك من المعنى افترق القول في تشبيه الأفعال والأسماء فجاز تشبيه أفعال الجماعة من الناس وغيرهم إذا كانت بمعنى واحد بفعل الواحد ثم حذف أسماء الأفعال وإضافة المثل والتشبيه إلى الذين لهم الفعل فيقال ما أفعالكم إلا كفعل الكلب ثم يحذف فيقال ما أفعالكم إلا كالكلب أو كالكلاب وأنت تعني إلا كفعل الكلب وإلا كفعل الكلاب
ولم يجز أن تقول ما هم إلا نخلة وأنت تريد تشبيه أجسامهم بالنخل في الطول والتمام
وأما قوله استوقد نارا فإنه في تأويل أوقد كما قال الشاعر وداع دعايا من يجيب إلى الندى فلم يستجبه عند ذاك مجيب يريد فلم يجبه
فكان معنى الكلام إذا مثل استضاءة هؤلاء المنافقين في إظهارهم لرسول الله وللمؤمنين بألسنتهم من قولهم آمنا بالله وباليوم الآخر وصدقنا بمحمد وبما جاء به وهم للكفر مستنبطون فيما الله فاعل بهم مثل استضاءة موقد نار بناره حتى أضاءت له النار ما حوله يعني ما حول المستوقد
وقد زعم بعض أهل العربية من أهل البصرة أن الذي في قوله كمثل الذي استوقد نارا بمعنى الذين كما قال جل ثناؤه والذي جاء بالصدق وصدق به أولئك هم المتقون
وكما قال الشاعر فإن الذي حانت بفلج دماؤهم هم القوم كل القوم يا أم خالد قال أبو جعفر والقول الأول هو القول لما وصفنا من العلة وقد أغفل قائل ذلك فرق ما بين الذي في الآيتين وفي البيت لأن الذي في قوله والذي جاء بالصدق قد جاءت الدلالة على أن معناها الجمع وهو قوله أولئك هم المتقون وكذلك الذي في البيت وهو قوله دماؤهم
وليست هذه الدلالة في قوله كمثل الذي استوقد نارا
فذلك فرق ما بين الذي في قوله كمثل الذي استوقد نارا وسائر شواهده التي استشهد بها على أن معنى الذي في قوله كمثل الذي استوقد نارا بمعنى الجماعة وغير جائز لأحد نقل الكلمة التي هي الأغلب في استعمال العرب على معنى إلى غيره إلا بحجة يجب التسليم لها
ثم اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك فروي عن بن عباس فيه أقوال أحدها ما حدثنا به محمد بن حميد قال حدثنا سلمة عن بن إسحاق عن محمد بن أبي محمد عن عكرمة كمثل الذي استوقد نارا فلما أضاءت ما حوله ذهب الله بنورهم وتركهم في ظلمات لا يبصرون أي يبصرون الحق ويقولون به حتى إذا خرجوا به من ظلمة الكفر أطفئوه بكفرهم ونفاقهم فيه فتركهم في ظلمات الكفر فهم لا يبصرون هدى ولا يستقيمون على حق
والآخر ما حدثنا به المثنى به إبراهيم قال حدثنا أبو صالح قال حدثنا معاوية بن صالح عن علي بن أبي طلحة عن بن عباس مثلهم كمثل الذي استوقد نارا إلى آخر الآية
هذا مثل ضربه الله للمنافقين أنهم كانوا يعتزون بالإسلام فيناكحهم المسلمون ويوارثونهم ويقاسمونهم الفيء فلما ماتوا سلبهم الله ذلك العز كما سلب صاحب النار ضوءه وتركهم في ظلمات يقول في عذاب
والثالث ما حدثني به موسى بن هارون قال حدثنا عمرو قال حدثنا أسباط عن السدي في خبر ذكره عن أبي مالك وعن أبي صالح عن بن عباس وعن مرة عن بن مسعود وعن ناس من أصحاب النبي مثلهم كمثل الذي استوقد نارا فلما أضاءت ما حوله ذهب الله بنورهم وتركهم في ظلمات لا يبصرون زعم أن أناسا دخلوا في الإسلام مقدم النبي المدينة ثم إنهم نافقوا فكان مثلهم كمثل رجل كان في ظلمة فأوقد نارا فأضاءت له ما حوله من قذى أو أذى فأبصره حتى عرف ما يتقي فبينا هو كذلك إذ طفئت ناره فأقبل لا يدري ما يتقي من أذى فكذلك المنافق كان في ظلمة الشرك فأسلم فعرف الحلال من الحرام والخير من الشر
فبينا هو كذلك إذ كفر فصار لا يعرف الحلال من الحرام ولا الخير من الشر
وأما النور فالإيمان بما جاء به محمد وكانت الظلمة نفاقهم
والآخر ما حدثني به محمد بن سعيد قال حدثني أبي سعيد بن محمد قال حدثني عمي عن أبيه عن جده عن بن عباس قوله مثلهم كمثل الذي استوقد نارا إلى فهم لا يرجعون ضربه الله مثلا للمنافق وقوله ذهب الله بنورهم قال أما النور فهو إيمانهم الذي يتكلمون به
وأما الظلمة فهي ضلالتهم وكفرهم يتكلمون به وهم قوم كانوا على هدى ثم نزع منهم فعتوا بعد ذلك
وقال آخرون بما
حدثني به بشر بن معاذ قال حدثنا يزيد بن زريع عن سعيد عن قتادة قوله مثلهم كمثل الذي استوقد نارا فلما أضاءت ما حوله ذهب الله بنورهم وتركهم في ظلمات لا يبصرون وإن المنافق تكلم بلا إله إلا الله فأضاءت له في الدنيا فناكح بها المسلمين وعاد بها المسلمين ووارث بها المسلمين وحقن بها دمه وماله
فلما كان عند الموت سلبها المنافق لأنه لم يكن لها أصل في قلبه ولا حقيقة في علمه
وحدثنا الحسن بن يحيى قال أخبرنا عبد الرزاق قال أخبرنا معمر عن قتادة مثلهم كمثل الذي استوقد نارا فلما أضاءت ما حوله هي لا إله إلا الله أضاءت لهم فأكلوا بها وشربوا
وأمنوا في الدنيا ونكحوا النساء وحقنوا بها دماءهم حتى إذا ماتوا ذهب الله بنورهم وتركهم في ظلمات لا يبصرون
وحدثنا القاسم قال حدثنا الحسين قال حدثني أبو نميلة عن عبيد بن سليمان عن الضحاك بن مزاحم قوله كمثل الذي استوقد نارا فلما أضاءت ما حوله قال أما النور فهو إيمانهم الذي يتكلمون به وأما الظلمات فهي ضلالتهم وكفرهم
وقال آخرون بما حدثني به محمد بن عمرو الباهلي قال حدثنا أبو عاصم قال حدثنا عيسى بن ميمون قال حدثنا بن أبي نجيح عن مجاهد في قول الله مثلهم كمثل الذي استوقد نارا فلما أضاءت ما حوله قال أما إضاءة النار فإقبالهم إلى المؤمنين والهدى وذهاب نورهم إقبالهم إلى الكافرين والضلالة
وحدثني المثنى بن إبراهيم قال حدثنا أبو حذيفة عن شبل عن بن أبي نجيح عن مجاهد مثلهم كمثل الذي استوقد نارا فلما أضاءت ما حوله أما إضاءة النار فإقبالهم إلى المؤمنين والهدى وذهاب نورهم إقبالهم إلى الكافرين والضلالة
حدثني القاسم قال حدثني الحسين قال حدثني حجاج عن بن جريج عن مجاهد مثله
وحدثني المثنى قال حدثنا إسحاق بن الحجاج عن عبد الله بن أبي جعفر عن أبيه عن الربيع بن أنس قال ضرب مثل أهل النفاق فقال مثلهم كمثل الذي استوقد نارا قال إنما ضوء النار ونورها ما أوقدتها فإذا خمدت ذهب نورها كذلك المنافق كلما تكلم بكلمة الإخلاص أضاء له فإذا شك وقع في الظلمة
وحدثني يونس بن عبد الأعلى قال أخبرنا بن وهب قال حدثني عبد الرحمن بن زيد في قوله كمثل الذي استوقد نارا إلى آخر الآية
قال هذه صفة المنافقين كانوا قد آمنوا حتى أضاء الإيمان في قلوبهم كما أضاءت النار لهؤلاء الذين استوقدوا ثم كفروا فذهب الله بنورهم فانتزعه كما ذهب بضوء هذه النار فتركهم في ظلمات لا يبصرون
وأولى التأويلات بالآية ما قاله قتادة والضحاك وما رواه علي بن أبي طلحة عن بن عباس
وذلك أن الله جل ثناؤه إنما ضرب هذا المثل للمنافقين الذين وصف صفتهم وقص قصصهم من لدن ابتدأ بذكرهم بقوله ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنينأي لا المعلنين بالكفر المجاهدين بالشرك
ولو كان المثل لمن آمن إيمانا صحيحا ثم أعلن بالكفر إعلانا صحيحا على ما ظن المتأول قول الله جل ثناؤه كمثل الذي استوقد نارا فلما أضاءت ما حوله ذهب الله بنورهم وتركهم في ظلمات لا يبصرون أن ضوء النار مثل لإيمانهم الذي كان منهم عنده على صحة وأن ذهاب نورهم مثل لارتدادهم وإعلانهم الكفر على صحة لم يكن هنالك من القوم خداع ولا استهزاء عند أنفسهم ولا نفاق وأنى يكون خداع ونفاق ممن لم يبدلك قولا ولا فعلا إلا ما أوجب لك العلم بحاله التي هو لك عليها وبعزيمة نفسه التي هو مقيم عليها إن هذا بغير شك من النفاق بعيد ومن الخداع بريء فإن كان القوم لم تكن لهم إلا حالتان حال إيمان ظاهر وحال كفر ظاهر فقد سقط عن القوم اسم النفاق لأنهم في حال إيمانهم الصحيح كانوا مؤمنين وفي حال كفرهم الصحيح كانوا كافرين ولا حالة هناك ثالثة كانوا بها منافقين
وفي وصف الله جل ثناؤه إياهم بصفة النفاق ما ينبئ عن أن القول غير القول الذي زعمه من زعم أن القوم كانوا مؤمنين ثم ارتدوا إلى الكفر فأقاموا عليه إلا أن يكون قائل ذلك أراد أنهم انتقلوا من إيمانهم الذي كانوا عليه إلى الكفر الذي هو نفاق وذلك قول إن قاله لم تدرك صحته إلا بخبر مستفيض أو ببعض المعاني الموجبة صحته
فأما في ظاهر الكتاب فلا دلالة على صحته لاحتماله من التأويل ما هو أولى به منه
فإذا كان الأمر على ما وصفنا في ذلك فأولى تأويلات الآية بالآية مثل استضاءة المنافقين بما أظهروا بألسنتهم لرسول الله من الإقرار به وقولهم له وللمؤمنين آمنا بالله وكتبه ورسله واليوم الآخر حتى حكم لهم بذلك في عاجل الدنيا بحكم المسلمين في حقن الدماء والأموال والأمن على الذرية من السباء وفي المناكحة والموارثة كمثل استضاءة الموقد النار بالنار حتى إذا ارتفق بضيائها وأبصر ما حوله مستضيئا بنوره من الظلمةحتى خمدت النار وانطفأت فذهب نوره وعاد المستضيء به في ظلمة وحيرة
وذلك أن المنافق لم يزل مستضيئا بضوء القول الذي دافع عنه في حياته القتل والسباء مع استبطانه ما كان مستوجبا به القتل وسلب المال لو أظهره بلسانه تخيل إليه بذلك نفسه أنه بالله ورسوله والمؤمنين مستهزىء مخادع حتى سولت له نفسه إذ ورد على ربه في الآخرة أنه ناج منه بمثل الذي نجا به في الدنيا من الكذب والنفاق
أو ما تسمع الله جل ثناؤه يقول إذ نعتهم ثم أخبرهم عند ورودهم عليه يوم يبعثهم الله جميعا فيحلفون له كما يحلفون لكم ويحسبون أنهم على شيء ألا إنهم هم الكاذبون ظنا من القوم أن نجاتهم من عذاب الله في الآخرة في مثل الذي كان به نجاتهم من القتل والسباء وسلب المال في الدنيا من الكذب والإفك وأن خداعهم نافعهم هنالك نفعه إياهم في الدنيا
حتى عاينوا من أمر الله ما أيقنوا به أنهم كانوا من ظنونهم في غرور وضلال واستهزاء بأنفسهم وخداع إذ أطفأ الله نورهم يوم القيامة فاستنظروا المؤمنين ليقتبسوا من نورهم فقيل لهم ارجعوا وراءكم فالتمسوا نورا واصلوا سعيرا
فذلك حين ذهب الله بنورهم وتركهم في ظلمات لا يبصرون كما انطفأت نار المستوقد النار بعد إضاءتها له فبقي في ظلمته حيران تائها لقول الله جل ثناؤه يوم يقول المنافقون والمنافقات للذين آمنوا انظرونا نقتبس من نوركم قيل ارجعوا وراءكم فالتمسوا نورا فضرب بينهم بسور له باب باطنه فيه الرحمة وظاهره من قبله العذاب ينادونهم ألم نكن معكم قالوا بلى ولكنكم فتنتم أنفسكم وتربصتم وارتبتم وغرتكم الأماني حتى جاء أمر الله وغركم بالله الغرور فاليوم لا يؤخذ منكم فدية ولا من الذين كفروا مأواكم النار هي مولاكم وبئس المصير الحديد فإن قال لنا قائل إنك ذكرت أن معنى قول الله تعالى ذكره كمثل الذي استوقد نارا فلما أضاءت ما حوله خمدت وانطفأت وليس ذلك بموجود في القرآن فما دلالتك على أن ذلك معناه قيل قد قلنا إن من شأن العرب الإيجاز والاختصار إذا كان فيما نطقت به الدلالة الكافية على ما حذفت وتركت كما قال أبو ذؤيب الهذلي عصيت إليها القلب إني لأمرها سميع فما أدري أرشد طلابها يعني بذلك فما أدري أرشد طلابها أم غي فحذف ذكر أم غي إذ كان فيما نطق به الدلالة عليها
وكما قال ذو الرمة في نعت حمير فلما لبسن الليل أو حين نصبت له من خذا آذانها وهو جانح يعني أو حين أقبل الليل
في نظائر لذلك كثيرة كرهنا إطالة الكتاب بذكرها
فكذلك قوله كمثل الذي استوقد نارا فلما أضاءت ما حوله لما كان فيه وفيما بعده من قوله ذهب الله بنورهم وتركهم في ظلمات لا يبصرون دلالة على المتروك كافية من ذكره اختصر الكلام طلب الإيجاز
وكذلك حذف ما حذف واختصار ما اختصر من الخبر عن مثل المنافقين بعده نظير ما اختصر من الخبر عن مثل المستوقد النار لأن معنى الكلام فكذلك المنافقون ذهب الله بنورهم وتركهم في ظلمات لا يبصرون بعد الضياء الذي كانوا فيه في الدنيا بما كانوا يظهرون بألسنتهم من الإقرار بالإسلام وهم لغيره مستبطنون كما ذهب ضوء نار هذا المستوقد بانطفاء ناره وخمودها فبقي في ظلمة لا يبصر والهاء والميم في قوله ذهب الله بنورهم عائدة على الهاء والميم في قوله مثلهم 4 القول في تأويل قوله تعالى صم بكم عمي فهم لا يرجعون قال أبو جعفر وإذ كان تأويل قول الله جل ثناؤه ذهب الله بنورهم وتركهم في ظلمات لا يبصرون هو ما وصفنا من أن ذلك خبر من الله جل ثناؤه عما هو فاعل بالمنافقين في الآخرة عند هتك أستارهم وإظهاره فضائح أسرارهم وسلبه ضياء أنوارهم من تركهم في ظلم أهوال يوم القيامة يترددون وفي حنادسها لا يبصرون فبين أن قوله جل ثناؤه صم بكم عمي فهم لا يرجعون من المؤخر الذي معناه التقديم وأن معنى الكلام أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى فما ربحت تجارتهم وما كانوا مهتدين صم بكم عمي فهم لا يرجعون مثلهم كمثل الذي استوقد نارا فلما أضاءت ما حوله ذهب الله بنورهم وتركهم في ظلمات لا يبصرون أو كمثل صيب من السماء
وإذ كان ذلك معنى الكلام فمعلوم أن قوله صم بكم عمي يأتيه الرفع من وجهين والنصب من وجهين
فأما أحد وجهي الرفع فعلى الاستئناف لما فيه من الذم وقد تفعل العرب ذلك في المدح والذم فتنصب وترفع وإن كان خبرا عن معرفة كما قال الشاعر لا يبعدن قومي الذين هم سم العداة وآفة الجزر النازلين بكل معترك والطيبين معاقد ألازر فيروي النازلون والنازلين وكذلك الطيبون والطيبين على ما وصفت من المدح
والوجه الآخر على نية التكرير من أولئك فيكون المعنى حينئذ أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى فما ربحت تجارتهم وما كانوا مهتدين أولئك صم بكم عمي فهم لا يرجعون
وأما أحد وجهي النصب فأن يكون قطعا مما في مهتدين من ذكر أولئك لأن الذي فيه من ذكرهم معرفة والصم نكرة
والآخر أن يكون قطعا من الذين لأن الذين معرفة والصم نكرة
وقد يجوز النصب فيه أيضا على وجه الذم فيكون ذلك وجها من النصب ثالثا
فأما على تأويل ما روينا عن بن عباس من غير وجه رواية علي بن أبي طلحة عنه فإنه لا يجوز فيه الرفع إلا من وجه واحد وهو الاستئناف
وأما النصب فقد يجوز فيه من وجهين أحدهما الذم والآخر القطع من الهاء والميم اللتين في تركهم أو من ذكرهم في لا يبصرون
وقد بينا القول الذي هو أولى بالصواب في تأويل ذلك
والقراءة التي هي القراءة الرفع دون النصب لأنه ليس لأحد خلاف رسوم مصاحف المسلمين وإذا قرئ نصبا كانت قراءة مخالفة رسم مصاحفهم
قال أبو جعفر وهذا خبر من الله جل ثناؤه عن المنافقين أنهم باشترائهم الضلالة بالهدى لم يكونوا للهدى والحق مهتدين بل هم صم عنهما فلا يسمعونهما لغلبة خذلان الله عليهم بكم عن القيل بهما فلا ينطقون بهما والبكم الخرس وهو جمع أبكم عمي عن أن يبصروهما فيعقلوهما لأن الله قد طبع على قلوبهم بنفاقهم فلا يهتدون
وبمثل ما قلنا في ذلك قال علماء أهل التأويل
حدثنا عبد بن حميد قال حدثنا سلمة عن محمد بن إسحاق عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت عن عكرمة أو عن سعيد بن جبير عن بن عباس صم بكم عمي عن الخير
حدثني المثنى بن إبراهيم قال حدثنا عبد الله بن صالح قال حدثني معاوية بن صالح عن علي بن أبي طلحة عن بن عباس صم بكم عمي يقول لا يسمعون الهدى ولا يبصرونه ولا يعقلونه
وحدثني موسى بن هارون قال حدثنا عمرو بن حماد قال حدثنا أسباط عن السدي في خبر ذكره عن أبي مالك وعن أبي صالح عن بن عباس وعن مرة عن بن مسعود وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بكم هم الخرس تفسير الطبري ج1/ص147
حدثنا بشر بن معاذ قال حدثنا يزيد بن زريع عن سعيد عن قتادة قوله صم بكم عمي صم عن الحق فلا يسمعونه عمي عن الحق فلا يبصرونه بكم عن الحق فلا ينطقون به
القول في تأويل قوله تعالى فهم لا يرجعون
قال أبو جعفر وقوله فهم لا يرجعون إخبار من الله جل ثناؤه عن هؤلاء المنافقين الذين نعتهم الله باشترائهم الضلالة بالهدى وصممهم عن سماع الخير والحق وبكمهم عن القيل بهما وعماهم عن إبصارهما أنهم لا يرجعون إلى الإقلاع عن ضلالتهم ولا يتوبون إلى الإنابة من نفاقهم فآيس المؤمنين من أن يبصر هؤلاء رشدا ويقولوا حقا أو يسمعوا داعيا إلى الهدى أو أن يذكروا فيتوبوا من ضلالتهم كما آيس من توبة قادة كفار أهل الكتاب والمشركين وأحبارهم الذين وصفهم بأنه قد ختم على قلوبهم وعلى سمعهم وغشى على أبصارهم
وبمثل الذي قلنا في تأويل ذلك قال أهل التأويل
حدثنا بشر بن معاذ قال حدثنا يزيد بن زريع عن سعيد عن قتادة فهم لا يرجعون أي لا يتوبون ولا يذكرون
وحدثني موسى بن هارون قال حدثنا عمرو بن حماد قال حدثنا أسباط عن السدي في خبر ذكره عن أبي مالك وعن أبي صالح عن بن عباس وعن مرة عن بن مسعود وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فهم لا يرجعون إلى الإسلام
وقد روي عن بن عباس قول يخالف معناه معنى هذا الخبر وهو ما حدثنا به بن حميد قال حدثنا سلمة عن محمد بن إسحاق عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت عن عكرمة أو عن سعيد بن جبير عن بن عباس فهم لا يرجعون أي فلا يرجعون إلى الهدى ولا إلى خير فلا يصيبون نجاة ما كانوا على ما هم عليه
وهذا تأويل ظاهر التلاوة بخلافه وذلك أن الله جل ثناؤه أخبر عن القوم أنهم لا يرجعون عن اشترائهم الضلالة بالهدى إلى ابتغاء الهدى وإبصار الحق من غير حصر منه جل ذكره ذلك من حالهم إلى وقت دون وقت وحال دون حال
وهذا الخبر الذي ذكرناه عن بن عباس ينبئ عن أن ذلك من صفتهم محصور على وقت وهو ما كانوا على أمرهم مقيمين وأن لهم السبيل إلى الرجوع عنه
وذلك من التأويل دعوى باطلة لا دلالة عليها من ظاهر ولا من خبر تقوم بمثله الحجة فيسلم لها
تفسير النسفي ج1/ص21
مثلهم كمثل الذي استوقد نارا لما جاء بحقيقة صفتهم عقبها بضرب المثل زيادة فىالكشف وتتميما للبيان ولضرب الأمثال فى إبراز خفيات المعانى ورفع الأستار عن الحقائق تأثير ظاهر ولقد كثر ذلك فى الكتب السماوية ومن سور الانجيل سورة الأمثال والمثل فى أصل كلامهم هو المثل وهو النظير يقال مثل ومثل ومثيل كشبه وشبه وشبيه ثم قيل للقول السائر المثل مضربه بمورده مثل ولم يضربوا مثلا إلا قولا فيه غرابة ولذا حوفظ عليه فلا يغير وقد استعير المثل للحال أو الصفة أو القصة إذا كان لها شأن وفيها غرابة كأنه قيل حالهم العجيبة الشأن كحال الذى استوقد نارا وكذلك قوله مثل الجنة التى وعد المتقون أى فيما قصصنا عليك من العجائب قصة الجنة العجيبة الشأن ثم أخذ فى بيان عجائبها ولله المثل الأعلى أى الوصف الذى له شأن من العظمة والجلالة ووضع الذى موضع الذين كقوله وخضتم كالذى خاضوا فلا يكون تمثيل الجماعة بالواحد أو قصد جنس المستوقدين أو أريد الفوج الذى استوقد نارا على أن ذوات المنافقين لم يشبهوا بذات المستوقد حتى يلزم منه تشبيه الجماعة بالواحد إنما شبهت قصتهم بقصة المستوقد ومعنىاستوقد أوقد ووقود النار سطوعها والنار جوهر لطيف مضى حار محرق واشتقاقها من نار ينور إذا نفر لأن فيها حركة واضطرابا فلما أضاءت ما حوله الإضاءة فرط الإنارة ومصداقه قوله هو الذى جعل الشمس ضياء والقمر نورا وهى فى الآية متعدية ويحتمل أن تكون غير متعدية مسندة إلى ما حوله والتأنيث للحمل على المعنى لأن ما حول المستوقد أماكن وأشياء وجواب فلما ذهب الله بنورهم وهو ظرف زمان والعامل فيه جوابه مثل إذا وما موصولة وحوله نصب على الظرف أو نكرة موصوفة والتقدير فلما أضاءت شيئا ثابتا حوله وجمع الضمير وتوحيد للحمل على اللفظ تارة وعلى المعنى أخرى والنور ضوء النار وضوء كل نير ومعنى أذهبه أزاله وجعله ذاهبا ومعنى ذهب به استصحبه ومضى به والمعنى أخذ الله بنورهم وأمسكه وما يمسك فلا مرسل له فكان أبلغ من الإذهاب ولم يقل ذهب الله بضوئهم لقوله فلما أضاءت لأن ذكر النور أبلغ لأن الضوء فيه دلالة على الزيادة والمراد إزالة النور عنهم رأسا ولو قيل ذهب الله بضوئهم لأوهم الذهاب بالزيادة وبقاء ما يسمى نورا ألا ترى كيف ذكر عقيبة وتركهم في ظلمات والظلمة عرض ينافى النور وكيف جمعها وكيف نكرها وكيف أتبعها ما يدل على أنها ظلمة لا تراءى فيها شبحان وهو قوله لا يبصرون وترك بمعنى طرح وخلى إذا علق بواحد فاذا علق بشيئين كان مضمنا معنى صير فيجرى مجرى أفعال القلوب ومنه وتركهم فى ظلمات أصله هم فى ظلمات ثم دخل ترك فنصب الجزأين والمفعول الساقط من لا يبصرون من قبيل المتروك المطروح لا من قبيل المقدر المنوى كأن الفعل غير متعد اصلا و إنما شبهت حالهم بحال المستوقد لأنهم غب الإضاءة وقعوا فى ظلمة وحيرة نعم المنافق خابط فى ظلمات الكفر أبدا ولكن المراد ما استضاءوا به قليلا من الانتفاع بالكلمةالمجراة علىالسنتهم ووراء استضاءتهم بنور هذه الكلمة ظلمة النفاق المفضية بهم إلى ظلمة العقاب السرمدى وللآية تفسير آخر وهو أنهم لما وصفوا بأنهم اشتروا الضلالة بالهدى عقب ذلك بهذا التمثيل ليمثل هداهم الذي باعوه بالنار المضيئة ما حول المستوقد والضلالة التي اشتروها بذهاب الله بنورهم وتركه إياهم فى الظلمات وتنكير النار للتعظيم صم بكم عمي أى هم صم كانت حواسهم سليمة ولكن لما سدوا عن الإصاخة إلى الحق مسامعهم وأبوا أن ينطقوا به ألسنتهم وان ينظروا ويتبصروا بعيونهم جعلوا كائما إيفت مشاعرهم وطريقته عند علماء البيان طريقة قولهم هم ليوث للشجعان وبحور الاسخياء إلا أن هذا فى الصفات وذلك فى الأسماء وما فى الآية تشبيه بليغ فى الأصح لا استعارة لأن المستعار له مذكور وهم المنافقون والاستعارة إنما تطلق حيث يطوى ذكر المستعار له ويجعل الكلام خلوا عنه صالحا لأن يراد به المنقول عنه والمنقول إليه لولا دلالة الحال أو فحوى الكلام فهم لا يرجعون لا يعودون إلى الهدى بعد أن باعوه أو عن الضلالة بعد أن اشتروها لتنوع الرجوع إلى الشئ وعنه أو أراد أنهم بمنزلة المتحيرين الذين بقوا جامدين فى مكانهم لا يبرحون ولا يدرون ايتقدمون أم يتأخرون
تفسير الواحدي ج1/ص93
مثلهم كمثل الذي استوقد نارا أي حالهم في نفاقهم وإبطانهم الكفر كحال من أوقد نارا فاستضاء بها وأضاءت النار ما حوله مما يخاف ويحذر وأمن فبينما هو كذلك إذ طفئت ناره فبقي مظلما خائفا متحيرا فذلك قوله تعالى ذهب الله بنورهم الآية كذلك المنافقون لما أظهروا كلمة الإيمان اغتروا بها وأمنوا فلما ماتوا عادوا إلى الخوف والعذاب 20
18 صم لتركهم قبول ما يسمعون بكم لتركهم القول بالخير عمي لتركهم ما يبصرون من الهداية فهم لا يرجعون عن الجهل والعمى إلى الإسلام
روح المعاني – الألوسي ج1/ص163
مثلهم كمثل الذي أستوقد نارا جملة مقررة لجملة قصة المنافقين المسرودة إلى هنا فلذا لم تعطف على ما قبلها ولما كان ذلك جاريا على ما فيه من إستعارات وتجوزات مجرى الصفات الكاشفة عن حقيقة المنافقين وبيان أحوالهم عقبه ببيان تصوير تلك الحقيقة وإبرازها في صورة المشاهد بضرب المثل تتميما للبيان فلضرب المثل شأن لا يخفى ونور لا يطفى يرفع الأستار عن وجوه الحقائق ويميط اللئام عن محيا الدقائق ويبرز المتخيل في معرض اليقين ويجعل الغائب كأنه شاهد وربما تكون المعاني التي يراد تفيهمها معقولة صرفة فالوهم ينازع العقل في إدراكها حتى يحجبها عن اللحوق بما في العقل فبضرب الأمثال تبرز في معرض المحسوس فيساعد الوهم العقل في إدراكها وهناك تنجلي غياهب الأوهام ويرتفع شغب الخصام وتلك الأمثال نضربها للناس لعلهم يتفكرون وقيل الأشبه أن تجعل موضحة لقوله تعالى أولئك الذين أشتروا إلخ ولا بعد فيه والحمل على الإستئناف بعيد لا سيما والأمثال تضرب للكشف والبيان والمثل بفتح تينك المثل بكسر فسكونوا لمثيل في الأصل النظير والشبيه والتفرقة لا أرتضيها وكأنه مأخوذ من المثول وهو الإنتصاب ومنه الحديث من أحب أن يتمثل له الناس قياما فليتبوأ مقعده من النار ثم اطلق على الكلام البليغ الشائع الحسن المشتمل إما على تشبيه بلا شبيه أو إستعارة رائقة تمثيلية وغيرها أو حكمة وموعظة نافعة أو كناية بديعة أو نظم من جوامع الكلم الموجز ولا يشترط فيه أن يكون إستعارة مركبة خلافا لمن وهم بل لا يشترط أن يكون مجازا وهذه أمثال العرب أفردت بالتآليف وكثرت فيها التصانيف وفيها الكثير مستعملا في معناه الحقيقي ولكونه فريدا في بابه وقد قصد حكايته لم يجوزوا تغييره لفوات المقصود وتفسيره بالقول السائر الممثل مضربه بمورده يرد عليه أمثال القرآن لأن الله تعالى إبتدأها وليس لها مورد من قبل اللهم إلا أن يقال إن هذا إصطلاح جديد أو أن الأغلب في المثل ذلك ثم أستعير لكل حال أو قصة أو صفة لها شأن وفيها غرابة ومن ذلك ولله المثل الأعلى و مثل الجنة التي وعد المتقون وهو المراد هنا في المثل دون التمثيل المدلول عليه بالكاف والمعنى حالهم العجيبة الشأن كحال من أستوقد نارا آلخ فيما سيكشف عن وجهه إن شاء الله تعالى فالكاف حرف تشبيه متعلقة بمحذوف خبر عن المبتدأ وزعم إبن عطية أنها اسم مثلها في قول الأعشى أينتهون ولن ينهى ذوي شطط كالطعن يذهب فيه الزيت والقتل وهذا مذهب إبن الحسن وليس بالحسن إلا في الضرورة والقول بالزيادة كما في قوله فصيروا مثل كعصف مأكول زيادة في الجهل والذي وضع موضع الذين إن كان ضمير بنورهم راجعا إليه وإلا فهو باق على ظاهره إذ لا ضير في تشبيه حال الجماعة بحال الواحد وجاز هنا وضع المفرد موضع الجمع وقد منعه الجمهور فلم يجوزوا إقامة القائم مقام القائمين لأن هذا مخالف لغيره لخصوصية أقتضته فإنه إنما وضع ليتوصل به إلى وصف المعارف بالجمل فلما لم يقصد لذاته توسعوا فيه ولأنه مع صلته كشيء واحد وعلامة الجمع لا تقع حشوا فلذا لم يلحقوها به ووضعوه لما يعم كمن وما والذين ليس جمعا له بل هو أسم وضع مزيدا فيه لزيادة المعنى وقصد التصريح بها ولذا لم يعرف بالحروف كغيره على الأفصح ولأن إستطال بالصلة فأستحق التخفيف حتى بولغ فيه إلى أن أقتصر على اللام في نحو أسم الفاعل قاله القاضي وغيره ولا يخلو عن كدر لا سيما الوجه الأخير وما روى عن بعض النحاة من جواز حذف نون الذين ليس بالمرض عند المحققين ولئن تنزل يلتزم عود ضمير الجمع إليه كما في قوله تعالى وخضتم كالذي خاضوا على وجه وقول الشاعر
يارب عيسى لا تبارك في أحد
في قائم منهم ولا فيمن قعد
إلا الذي قاموا بأطراف المسد
وإفراد الضمير لم نسمعه ممن يوثق به ولعله لأن المحذوف كالملفوظ فالوجه أن يقال إنه نظر إلى ما في الذي من معنى الجنسية العامة إذ لا شبهة في أنه لم يرد به مستوقد مخصوص ولا جميع أفراد المستوقدين والموصول كالمعرف باللام يجري فيه ما يجري فيه وأسم الجنس وإن كان لفظه مفردا قد يعامل معاملة الجمع كعاليهم ثياب سندس خضر وقولهم الدينار الصفر والدرهم البيض أو يقال إنه مقدر له موصوف مفرد اللفظ مجموع المعنى كالفوج والفريق فيحسن النظام ويلاحظ في ضمير أستوقد لفظ الموصوف وفي ضمير بنورهم معناه وأستوقدوا بمعنى أوقدوا فقد حكى أبو زيد أوقد وأستوقد بمعنى كأجاب وأستجاب وبه قال الأخفش وجعل الأستيقاد بمعنى طلب الوقود وهو سطوع النار كما فعل البيضاوي محوج إلى حذف والمعنى حينئذ طلبوا نارا وأستدعوها فأوقدوها فلما أضاءت لأن الإضاءة لا تتسبب عن الطلب وإنما تتسبب عن الإيقاد والنار جوهر لطيف مضيء محرق وإشتقاقها من نار ينور نورا إذا نفر لأن فيها على ما تشاهد حركة وإضطرابا لطلب المركز وكونه من غلط الحس كأنه من غلط الحس نعم أورد على التعريف أن الإضاءة لا تعتبر في حقيقتها وليست شاملة لما ثبت في الكتب الحكميةأن النار الأصلية حيث الأثير شفافة لا لون لها وكذا يقال في الإحراق والجواب أن تخصيص الأسماء لأعيان ألاشياء حسبما تدرك أو للمعاني الذهنية المأخوذة منها وأما إعتبار لوازمها وذاتياتها فوظيفة من أراد الوقوف على حقائقها وذلك خارج عن وسع أكثر الناس والناس يدركون من النار التي عندهم الإضاءة والإجراق ويجعلونهما أخص أوصافها والتعريف للمتعارف وعدم الأحراق لمانع لا يضر على أن كون النار التي تحت الفلك هادية غير محرقة وإن زعمه بعض الناس أبطله الشيخ وإحتراق الشهب على من ينكر الإحراق وأغرب من هذا نفي النار التي عند الأثير وقريب منه القول بأنها ليست غير الهواء الحار جدا وقرأ إبن السميقع كمثل الذين على الجمع وهي قراءة مشكلة جدا وقصارى ما رأيناه في توجيهها أن إفراد الضمير على ما عهد في لسان العرب من التوهم كأنه نطق بمن الذي لها لفظا ومعنى كما جزم بالذي على توهم من الشرطية في قوله كذاك الذي يبغي على الناس ظالما تصبه على رغم عواقب ما صنع أو أنه أكتفى بالأفراد عن الجمع كما يكتفي بالمفرد الظاهر عنه فهو كقوله
وبالبدو منا أسرة يحفظونها سراع إلى الداعي عظام كراكره
أي كراكرهم أو أن الفاعل في أستوقد عائد على أسم الفاعل المفهوم من الفعل كما في قوله تعالى ثم بدا لهم من بعد ما رأوا الآيات على وجه والعائد حينئذ محذوف على خلاف القياس أي لهم أو لا عائد في الجملة الأولى إكتفاء بالضمير من الثانية المعطوفة بالفاء وفي القلب من كل شيء فلما أضاءت ما حوله ذهب الله بنورهم لما حرف وجود لوجود أو وجوب لوجوب كما نص عليه سيبويه أو ظرف بمعنى حين أو إذ والإضاءة جعل الشيء مضيئا نيرا أو الإشراق وفرط الإنارة وأضاء يكون متعديا ولازما فعلى الأول ما موصولة أو موصوفة والظرف صلة أو صفة وهي المفعول والفاعل ضمير النار وعلى الثاني فما كذلك وهي الفاعل وأنت فعله لتأويله بمؤنث كالأمكنة والجهات أو الفاعل ضمير النار وما زائدة أو في محل نصب على الظرفية ولا يحب التصريح بفي حينئذ كما توهم لأن الحق أن ما الموصولة أو الموصوفة إذا جعلت ظرفا فالمراد بها الأمكنة التي تحيط بالمستوقد وهي الجهات الست وهي مما ينصب على الظرفية قياسا مطردا فكذا ما عبر به عنها وأولى الوجوه أن تكون أضاءت متعدية و ما موصولة إذ لا حاجة حينئذ إلى الحمل على المعنى ولا إرتكاب ما قل إستعماله لا سيما زيادة ما هنا حتى ذكروا أنها لم تسمع هنا ولم يحفظ من كلام العرب جلستما مجلسا حسنا ولا قمتما يوم الجمعة ويا ليت شعري من أين أخذ ذلك الزمخشري وكيف تبعه البيضاوي وذأ جعل الفاعل ضمير النار والفعل لازم يكون الإسناد إلى السبب لأن النار لم توجد حول المستوقد ووجد ضؤوها فجعل إشراق ضوئها حوله بمنزلة إشراقها نفسها على ما قيل وهو مبني على أن الإظرف إذا تعلق بفعل قاصر له أثر متعد يشترط في تحقق النسبة الظرفية للأثر والمؤثر فلا بد في إشراق كذا في كذا من كون الإشراق والمشرق فيه وهذا كما إذا تعلق الظرف بفعل قاصر كقام زيد في الدار فإن ريدا والقيام فيها ذاتا وتبعا وإلى ذلك مال الزمخشري ومن الناس من إكتفى بوجود الاثر فيه وإن لم يوجد المؤثر فيه بذاته كما في الأفعال المتعدية فأضاءت الشمس في الأرض حقيقة على هذا مجاز على الأول وحول ظرف مكان ملازم للظرفية والإضافة ويثني ويجمع فيقال حوليه وأحواله وحوال مثله فيثني على حوالي ولم نظفر بجمعه فيما حولنا من الكتب اللغوية ولا تقل حواليه بكسر اللام كما في الصحاح ولعل التثنية والجمع مع ما يفهم من بعض الكتب أن حول وكذا حوال بمعنى الجوانب وهي مستغرقة ليسا حقيقين وقيل بإعتبار تقسيم الدائرة كما أشار إليه المولى عاصم أفندي في ترجمة القاموس بالرومية وفيه تأمل وأصل هذا التركيب موضوع للطواف والإحاطة كالحول للسنة فإنه يدور من فصل أو يوم إلى مثله ولما لزمه الإنتقال والتغير أستعمل فيه بإعتباره كالإستحالة والحوالة وإن خفى في نحو الحول بمعنى القوة وقيل أصله تغير الشيء وإنفصاله و ذهب إلخ جواب لما والسببي إدعائية فإنه لما ترتب إذهاب النور على الإضاءة بلا مهلة جعل كأنه سبب له على أنه يكفي في الشرط مجرد التوقف نحو إن كان لي مال حججت والا ذهاب متوقف على الإضاءة والضمير في بنورهم للذي أو لموصوفه وجمعه لما تقدم وأختار النور على النار لأنه أعظم منافعها والمناسب للمقام سباقا ولحاقا وقيل الجملة مستأنفة جوابا عما لهم شبهت حالهم بذلك أو بدل من جملة التمثيل للبيان والضمير للمنافقين وجواب لما محذوف أي خمدت نارهم فبقوا متحيرين ومثله فلما ذهبوا به وحذفه للإيجاز وأمن الألباس ولا يخفى ما فيه على من له أدنى إنصاف وإن أرتضاه الجم الغفير ويجل عن مثل هذا الألغاز كلام الله تعالى اللطيف الخبير وإسناد الفعل إليه تعالى حقيقة فهو سبحانه الفعال المطلق الذي بيده التصرف في الأمور كلها بواسطة وبغير بواسطة ولا يعترض على الحكيم بشيء وحمل النار على نار لا يرضى الله تعالى إيقادها إما مجازية كنار الفتنة والعداوة للإسلام أو حقيقة أوقدها الغواة للفساد أو الإفساد فحينئذ يليق بالحكيم إطفاؤها وإلا يرتكب المجاز لم يدع إليه إلا إعتزال وإيقاد نار الغواية والإضلال وعدى بالباء دون الهمزة لما في المثل السائر أن ذهب بالشيء يفهم منه أنه أستصحبه وأمسكه عن الرجوع إلى الحالة الأولى ولا كذلك أذهبه فالباء والهمزة وإن أشتركا في معنى التعدية فلا يبعد أن ينظر صاحب المعاني إلى معنى الهمزة والباء الأصليين أعني الإزالة
والمصاحبة والإلصاق ففي الآية لطف لا ينكر كيف والفاعل هو الله تعالى القوي العزيز الذي لاراد لما أخذه ولا مرسل لما أمسكه وذكر أبو العباس أن ذهبت بزيد يقتضي ذهاب المتكلم مع زيد دون أذهبته ولعله يقول إن ما في الآية مجاز عن شدة الأخذ بحيث لا يرد أو يجوز أن يكون الله تعالى وصف نفسه بالذهاب على معنى يليق به كما وصف نفسه سبحانه بالمجيء في ظاهر قوله تعالى وجاء ربك والذي ذهب إليه سيبويه إلى أن الباء بمعنى الهمزة فكلاهما لمجرد التعدية عنده بلا فرق فلذا لا يجمع بينهما والنور منشأ الضياء ومبدؤه كما يشير إليه إستعمال العرب حيث أضافوا الضياء إليه كما قال ورقة بن نوفل ويظهر في البلاد ضياء نور وقال العباس رضي الله تعالى عنه وأنت لما ظهرت أشرقت الأرض وضاءت بنورك الأفق ولهذا أطلق عليه سبحانه النور دون الضياء وأشار سبحانه إلى نفي الضياء الذي هو مقتضى الظاهر بنفي النور وإذهابه لأنه أصله وبنفي الأصل ينتفي الفرع وهذا الذي ذكرنا هو الذي أرتضاه المحققون من أهل اللغة ومنه يعلم وجه وصف الشريعة المحمدية بالنور في قوله تعالى قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين والشريعة الموسوية بالضياء في قوله تعالى ولقد آتينا موسى وهرون الفرقان وضياءا وذكرا للمتقين وفي ذلك إشارة إلى مقام نبينا صلى الله تعالى عليه وسلم الجامع الفارق ومزيته على أخيه موسى عليه السلام الذي لم يأت إلا بالفرق ولفرق ما بين الحبيب والكليم وكل آي أتى الرسل الكرام بها فإنما أتصلت من نوره بهم وكذا وجه وصف الصلاةالناهية عن الفحشاء والمنكر في حديث مسلم بالنور والصبر بالضياء ويعلم من هذا أنه أقوى من الضياء كذا قيل وأعترض بأنه قد جاء وصف ما أوتيه نبينا صلى الله تعالى عليه وسلم بالضياء كما جاء وصف ما أوتيه موسى عليه السلام بالنور وإليه يشير كلام الشيخ الأكبر قدس سره في الفتوحات فتدبر وذهب بعض الناس إلى أن الضياء أقوى من النور لقوله تعالى جعل الشمس ضياء والقمر نورا وعلى هذا يكون التعبير ب ذهب الله بنورهم دون ذهب الله بضوئهم دفعا لإحتمال إذهاب ما في الضوء من الزيادة وبقاء ما يسمى نورا مع أن الغرض إزالة النور رأسا وذكر بعضهم أن كلا من الضوء والنور يطلق على ما يطلق عليه الآخر فهما كالمترادفين والفرق إنما نشأ من الإستعمال أو الإصطلاح لا من أصل الوضع واللغة ومن هنا قال الحكماء إن الضوء ما يكون للشيء من ذاته والنور ما يكون من غيره وأستعمل الضوء لما فيه حرارة حقيقة كالذي في الشمس أو مجازا كالذي ذكر فيما أوتيه موسى عليه السلام مما فيه شدة ومزيد كلفة ومنه الصبر ضياء ومعلوم أنه كاسمه والنور لما ليس كذلك كالذي في القمر وفيما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم من الشريعة السهلة السمحة البيضاء ومنه الصلاة نور ولا شك أنها قرة العين وراحة القلب وإلى ذلك يشير وجعلت قرة عيني في الصلاة وأرحنا يا بلال واستعمل النور لما يطرأ في الظلم كما ورد كان الناس في ظلمة فرش الله تعالى عليهم من نوره وقول الشاعر بتنا وعمر الليل في غلوائه وله بنور البدر فرع أشمط والضوء ليس كذلك إلى غير ذلك مما لا يخفى على المتتبع والذي يميل القلب إليه أن الضياء يطلق على النور القوي وعلى شعاع النور المنبسط فهو بالمعنى الأول أقوى وبالمعنى الثاني أدنى ولكل مقام مقال ولكل مرتبة عبارة ولا حجر على البليغ في إختيار أحد الأمرين في بعض المقامات لنكتة أعتبرها ومناسبة لاحظها وآية الشمس لا تدل على أن الضياء أقوى من النور أينما وقع فالله نور السموات والأرض ولله المثل الأعلىوشاع إطلاق النور على الذوات المجردة دون الضوء ولعل ذلك لأن إنسياق العرضية منه إلى الذهن أسرع من إنسياقها من النور إليه فقد أنتشر أنه عرض وكيفية مغايرة للون والقول بأنه عبارة عن ظهور اللون أو أنه أجسام صغار تنفصل من المضيء فتتصل بالمستضيء مما بين بطلانه في الكتب الحكمية وإن قال بكل بعض من الحكماء ثم التعبير بالنور هنا دون الضوء يحتمل أن يكون لسر غير ما أنقدح في أذهان الناس وهو كونه أنسب بحال المنافقين الذين حرموا الإنتفاع والإضاءة بما جاء من عند الله مما سماه سبحانه نورا في قوله تعالى قد جاءكم من الله نور وكتاب فكأن الله عز شأنه أمسك عنهم النور وحرمهم الإنتفاع به ولم يسمه سبحانه ضوءا لتتأتي هذه الإشارة لو قال هنا ذهب الله بضوئهم بل كساه من حلل أسمائه وأفاض عليه من أنوار آلائه فهو المظهر الآتم والرداء المعلم هذا وإضافة النور إليهم لأدنى ملابسة لأنه للنار في الحقيقة لكن لما كانوا ينتفعون به صح إضافته إليهم وقرأ إبن السم يقع وإبن أبي عبلة فلما ضاءت ثلاثيا وتخريجها يعلم مما تقدم وقرأ اليماني أذهب الله نورهم وفيها تأييد لمذهب سيبويه وتركهم في ظلمات لا يبصرون 71 عطف على قوله تعالى ذهب الله بنورهم وهو أوفى بتأدية المراد فيستفاد منه التقرير لإنتفاء النور بالكلية تبعا لما فيه من ذكر الظلمة وجمعها وتنكيرها وإيراد لا يبصرون وجعل الواو للحال بتقدير قد مع ما فيه يقتضي ثبوت الظلمة قبل ذهاب النور ومعه وليس المعنى عليه والترك في المشهور طرح الشيء كترك العصا من يده أو تخليته محسوسا كان أو غيره وإن لم يكن في يده كترك وطنه ودينه وقال الراغب ترك الشيء رفضه قصدا وإختيارا أو قهرا وإضطرارا ويفهم من المصباح أنه حقيقة في مفارقة المحسوسات ثم استعير في المعاني وفي كون الفعل من النواسخ الناصبة للجزأين لتضمينه معنى صير أم لا خلاف والكل هنا محتمل فعلى الأول هم مفعوله الأول وفي ظلمات مفعوله الثاني ولا يبصرون صفة لظلمات بتقدير فيها أو حال من الضمير المستتر أو من هم ولا يجوز أن يكون في ظلمات حالا و لا يبصرون مفعولا ثانيا لأن الأصل في الخبر أن لا يكون مؤكدا وإن جوزه بعضهم وعلى الثاني هم مفعوله و في ظلمات لا يبصرون حالان مترادفان من المفعول أو متداخلان فالأول من المفعول والثاني من الضمير فيه و في ظلمات متعلق ب تركهم و لا يبصرون حال والظلمة في المشهور عدم الضوء عما من شأنه أن يكون مستضيئا فالتقابل بينها وبين الضوء تقابل العدم والملكة وأعترض بأن الظلمة كيفية محسوسة ولا شيء من العدم كذلك وبأنها مجعولة كما يقتضيه قوله تعالى وجعل الظلمات والنور والمجعول لا يكون إلا موجودا وأجيب عن الأول بمنع الصغرى فأنا إذا غمضنا العين لا نشاهد شيئا ألبتة كذلك إذا فتحنا العين في الظلمة وعن الثاني بالمنع أيضا فإن الجاعل كما يجعل الموجود يجعل العدم الخاص كالعمى والمنافي للمجعولية هو العدم الصرف وقيل كيفية مانعة من الأبصار فالتقابل تقابل التضاد وأعترض بأنه لو كانت كيفية لما أختلف حال من في الغار المظلم ومن هو في الخارج في الرؤية وعدمها إلا أن يقال المراد أنها كيفية مانعة من إبصار ما فيها فيندفع الإعتراض عنه وربما يرجح عليه بأنه قد يصدق على الإظلمة الأصلية السابقة على وجود العالم دونه كما قيل وقيل التقابل بين النور والظلمة تقابل الإيجاب والسلب وجمع الظلمات إما لتعددها في الواقع سواء رجع ضمير الجمع إلى المستوقدين أو المنافقين أو لأنها في الحقيقة كانت ظلمة واحدة لكنها لشدتها أستعير لها صيغة الجمع مبالغة كما قيل رب واحد يعدل ألفا أو لأنه لما كان الكل واحد ظلمة تخصه جمعت بذلك الإعتبار كذا قالوا ومن اللطائف أن الظلمة حيثما وقعت في القرآن وقعت مجموعة والنور حيثما وقع وقع مفردا ولعل السبب هو أن الظلمة وإن قلت تستكثر والنور وإن كثر يستقل ما لم يضر وأيضا كثيرا ما يشار بهما إلى نحو الكفر والإيمان والقليل من الكفر كثير والكثير من الإيمان قليل فلا ينبغي الركون إلى قليل من ذاك ولا الإكتفاء بكثير من هذا وأيضا معدن الظلمة بهذا المعنى قلوب الكفار وتحسبهم جميعا وقلوبهم شتى ومشرق النور بذلك المعنى قلوب المؤمنين وهي كقلب رجل واحد وأيضا النور المفاض هو الوجود المضاف وهو واحد لا تعدد فيه كما يرشدك إليه قوله تعالى الله نور السموات والأرض وفي الظلمة لا يرى مثل هذا وأيضا الظلمة يدور أصل معناها على المنع فلذا أخذت من قولهم ما ظلمك أن تفعل كذا أي ما منعك وفي مثلثات إبن السيد الظلم بفتح الظاء شخص كل شيء يسد بصر الناظر يقال لقيته أول ذي ظلم أي أول شخص يسد بصري وزرته والليل ظلم أي مانع من الزيارة فكأنها سميت ظلمة لأنها تسد في المشهور وتمنع الرؤية فبإعتبار تعدد الموانع جمعت ولم يعتبر مثل هذا في اصل معنى النور فلم يجمع إلى غير ذلك وإنما نكرت ظلمات هنا ولم تضف إلى ضميرهم كما أضيف النور إختصارا للفظ وإكتفاء بما دل عليه المعنى والظرفية مجازية كيفما فسرت الظلمة على بعض الآراء و لا يبصرون منزل اللازم لطرح المفعول نسيا منسيا ولعدم القصد إلى مفعول دون مفعول فيفيد العموم وقرأ الجمهور في ظلمات بضم اللام والحسن وأبو السماك بسكونها وقوم بفتحها والكل جمع ظلمة
وزعم قوم أن ظلمات بالفتح جمع ظلم جمع ظلمة فهي جمع الجمع والعدول إلى الفتح تخفيفا مع سماعه في أمثاله أسهل من إدعاء جمع الجمع إذ ليس بقياسي ولا دليل قطعي عليه وقرأ اليماني في ظلمة وفي الآية إشارة إلى تشبيه إجراء كلمة الشهادة على ألسنة من ذكر والتحلي بحلية المؤمنين ونحو ذلكم ما يمنع من قتلهم ويعود عليهم بالنفع الدنيوي من نحو الأمن والمغانم وعدم إخلاصهم لما أظهروه بالنفاق الضار في الدين بإيقاد نار مضيئة للإنتفاع بها أطفأها الله تعالى فهبت عليهم الرياح والأمطار وصيرت موقدها في ظلمة وحسرة ويحتمل أنهم لما وصفوا بأنهم أشتروا الضلالة بالهدى عقب ذلك بهذا التمثيل لتشبيه هداهم الذي باعوه بالنار المضيئة ما حول المستوقد والضلالة التي أشتروها وطبع الله تعالى بها على قلوبهم بذهاب الله تعالى بنورهم وتركه إياهم في الظلمات والتفسير المأثور عن إبن عباس رضي الله تعالى عنهما كما أخرجه إبن جرير عنه أن ذلك مثل للإيمان الذي أظهروه لإجتناء ثمراته بنار ساطعة الأنوار موقدة للإنتفاع والإستبصار ولذهاب أثره وإنطماس نوره بإهلاكهم وإفشاء حالهم بإطفاء الله تعالى إياها وإذهاب نورها ويشتمل التشبيه وجوها أخر ومن البطون القرآنية التي ذكرها ساداتنا الصوفية نفعنا الله تعالى بهم أن الآية مثل من دخل طريقة الأولياء بالتقليد لا بالتحقيق فعمل عمل الظاهر وما وجد حلاوة الباطن فترك الأعمال بعد فقدان الأحوال أو مثل من أستوقد نيران الدعوى وليس عنده حقيقة فأضاءت ظواهره بالصيت والقبول فأفشى الله تعالى نفاقه بين الخلق حتى نبذوه في الآخر ولا يجد مناصا من الفضيحة يوم تبلى السرائر وقال أبو الحسن الوراق هذا مثل ضربه الله تعالى لمن لم يصحح أحوال الإرادة فأرتقى من تلك الأحوال بالدعاوى إلى أحوال الأكابر فكان يضيء عليه أحوال إرادته لو صححها بملازمة آدابها فلما مزجها بالدعاوى أذهب الله تعالى عنه تلك الآنوار وبقى في ظلمات دعاويه لا يبصر طريق الخروج منها نسأل الله تعالى العفو والعافية ونعوذ به من الحور بعد الكور صم بكم عمي فهم لا يرجعون 81 الأوصاف جموع كثرة على وزن وهو قياس في جمع فعلاء وأفعل الوصفين سواء تقابلا كأحمر وحمراء أم إنفرادا لمانع في الخلقة كغرل ورتق فإن كان الوصف مشتركا ولكن لم يستعملا على نظام أحمر وحمراء كرجل ألي وأمرأة عجزاء فالوزن فيه سماعي والصمم داء في الأذن يمنع السمع وقال الأطباء هو أن يخلق الصماخ بدون تجويف يشتمل على الهواء الراكد الذي يسمع الصوت بتموجه فيه أو بتجويف لكن العصب لا يؤدي قوة الحس فإن أدى بكلفة سمى عندهم طرشا وأصله من الصلابة أو السد ومنه قولهم قناة صماء وصممت القارورة والبكم الخرس وزنا ومعنى وهو داء في اللسان يمنع من الكلام وقيل الأبكم هو الذي يولد أخرس وقيل الذي لا يفهم شيئا ولا يهتدي إلى الصواب فيكون إذ ذاك داء في الفؤاد لا في اللسان والعمى عدم البصر عما من شأنه أن يكون بصيرا وقيل ظلمة في العين تمنع من إدراك المبصرات ويطلق على عدم البصيرة مجازا عند بعض وحقيقة عند آخرين وهي أخبار لمبتدأ محذوف هو ضمير المنافقين أو خبر واحد وتؤول إلى عدم قبولهم الحق وهم وإن كانوا سمعاء الآذان فصحاء الألسن بصراء الأعين إلا أنهم لما لم يصيخوا للحق وأبت أن تنطق بسائره ألسنتهم ولم يتلمحوا أدلة الهدى المنصوبة في الآفاق والأنفس وصفوا بما وصفوا به من الصمم والبكم والعمى على حد قوله
أعمى إذا ما جارتي برزت حتى يواري جارتي الخدر
وأصم عما كان بينهما أذني وما في سمعها وقر
وهذا من التشبيه البليغ عند المحققين لذكر الطرفين حكما وذكرهما قصدا حكما أو حقيقة مانع عن الإستعارة عندهم وذهب بعضهم إلى أنه إستعارة وآخرون إلى جواز الأمرين وهذا أمر مفروغ عنه ليس لتقريره هنا كثير جدوى غير أنهم ذكروا هنا بحثا وهو أنه لا نزاع أن التقدير هم صم إلخ لكن ليس المستعار له حينئذ مذكورا لأن لبيان أحوال مشاعر المنافقين لأذواتهم ففي هذه الصفات إستعارة تبعية مصرحة إلا أن يقال تشبيه ذوات المنافقين بذوات الأشخاص الصم متفرع على تشبيه حالهم بالصمم فالقصد إلى إثبات هذا الفرع أقوى وأبلغ وكأن المشابهة بين الحالين تعدت إلى الذاتين فحملت الآية على هذا التشبيه برعاية المبالغة أو يقال ولعله أولى إنهم المقدر راجع للمنافقين السابق حالهم وصفاتهم تشهيرهم بها حتى صاروا مثلا فكأنه قيل هؤلاء المتصفون بما ترى صم على أن المستعار له ما تضمنه الضمير الذي جعل عبارة عن المتصفين بما مر والمستعار ما تضمن الصم وأخويه من قوله صم إلخ فقد أنكشف المغطى وليس هذا بالبعيد جدا والآية فذلكة ما تقدم ونتيجته إذ قد علم من قوله سبحانه لا يشعرون و لا يبصرون أنهم صم عمي ومن كونهم يكذبون أنهم لا ينطقون بالحق فهم كالبكم ومن كونهم غير مهتدين أنهم لا يرجعون وقدم الصمم لأنه إذا كان خلقيا يستلزم البكم وأخر العمى لأنه كما قيل شامل لعمى القلب الحاصل من طرق المبصرات والحواس الظاهرة وهو بهذا المعنى متأخر لأنه معقول صرف ولو توسط حل بين العصا ولحائها ولو قدم لأوهم تعلقه ب لا يبصرون أو الترتيب على وفق حال الممثل له لأنه يسمع أولا دعوة الحق ثم يجيب ويعترف ثم يتأمل ويتبصر ومثل هذه الجملة وردت تارة بالفاء كما في قوله تعالى وواعدنا موسى ثلاثين ليلة وأتممناها بعشر فتم ميقات ربه أربعين ليلة وأخرى بدونها كما في قوله تعالى فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتم تلك عشرة كاملة لأن إستلزام ما قبلها وتضمنه لها بالقوة منزل منزلة المتحد معه فيترك العطف ومغايرتها له وترتبها عليه ترتب النتاج والفرع على أصله يقتضي الإقتران بالفاء وهو الشائع المعروف وبعض الناس يجعل الآية من تتمة التمثيل فلا يحتاج حينئذ إلى التجوز ويكفي فيه الفرض
زاد المسير – ابن الجوزي ج1/ص38
قوله تعالى مثلهم كمثل الذي استوقد نارا
هذه الآية نزلت في المنافقين والمثل بتحريك الثاء ما يضرب ويوضع لبيان النظائر في الاحوال وفي قوله تعالى استوقد قولان أحدهما أن السين زائدة وأنشدوا وداع دعا يا من يجيب الى الندى
فلم يستجبه عند ذاك مجيب أراد فلم يجبه وهذا قول الجمهور منهم الاخفش وابن قتيبة
والثاني ان السين داخلة للطلب أراد كمن طلب من غيره نارا
قوله تعالى فلما أضاءت ما حوله ذهب الله بنورهم وتركهم في ظلمات لا يبصرون
وفي أضاءت قولان أحدهما أنه من الفعل المتعدي قال الشاعر أضاءت لهم أحسابهم ووجوههم
دجى الليل حتى نظم الجزع ثاقبه
وقال آخر أضاءت لنا النار وجها أغر ملتبسا بالفؤاد التباسا
والثاني أنه من الفعل اللازم قال أبو عبيد يقال أضاءت النار وأضاءها غيرها وقال الزجاج يقال ضاء القمر وأضاء
وفي ما قولان أحدهما أنها زائدة تقديره أضاءت حوله والثاني أنها بمعنى الذي وحول الشئ ما دار من جوانبه والهاء عادة على المستوقد فان قيل كيف وحد فقال كمثل الذي استوقد ثم جمع فقال ذهب الله بنورهم فالجواب أن ثعلبا حكى عن الفراء أنه قال إنما ضرب المثل للفعل لا لأعيان الرجال وهو مثل للنفاق وإنما قال ذهب الله بنورهم لأن المعنى ذاهب الى المنافقين فجمع لذلك قال ثعلب وقال غير الفراء معنى الذي الجمع وحد اولا للفظه وجمع بعد لمعناه كما قال الشاعر
فان الذي حانت بفلج دماؤهم هم القوم كل القوم با أم خالد
فجعل الذي جمعا
اختلف العلماء في الذي ضرب الله تعالى له هذا المثل من أحوال المنافقين على قولين أحدهما أنه ضرب بكلمة الإسلام التي يلفظون بها ونورها صيانة النفوس وحقن الدماء فاذا ماتوا سلبهم الله ذلك العز كما سلب صاحب النار ضوءه وهذا المعنى موي عن ابن عباس والثاني أنه ضرب لإقبالهم على المؤمنين وسماعهم ما جاء به الرسول فذهاب نورهم إقبالهم على الكافرين والضلال وهذا قول مجاهد
وفي المراد ب الظلمات ها هنا أربعة أقوال أحدها العذاب قاله ابن عباس والثاني ظلمة الكفر قاله مجاهد والثالث ظلمة يلقيها الله عليهم بعد الموت قاله قتادة والرابع أنها نفاقهم قاله السدي وفي ضرب المثل لهم بالنار ثلاث حكم
إحداها أن المستضيء بالنار مستضيء بنور من جهة غيره لا من قبل نفسه فاذا ذهبت تلك النار بقي في طلمة فكأنهم لما أقروا بألسنتهم من غير اعتقاد قلوبهم كان نور إيمانهم كالمستعار
والثانية أن ضياء النار يحتاج في دوامه الى مادة الحطب فهو له كغذاء الحيوان فكذلك نور الإيمان يحتاج الى مادة الاعتقاد ليدوم لثانية أن الظلمة الحادثة بعد الضوء أشد على الإنسان من ظلمة لم يجد معها ضياء فشبه حالهم بذلك قوله تعالى مثلهم كمثل الذي استوقد نارا
هذه الآية نزلت في المنافقين والمثل بتحريك الثاء ما يضرب ويوضع لبيان النظائر في الاحوال وفي قوله تعالى استوقد قولان
أحدهما أن السين زائدة وأنشدوا وداع دعا يا من يجيب الى الندى
فلم يستجبه عند ذاك مجيب
أراد فلم يجبه وهذا قول الجمهور منهم الاخفش وابن قتيبة
والثاني ان السين داخلة للطلب أراد كمن طلب من غيره نارا
قوله تعالى فلما أضاءت ما حوله ذهب الله بنورهم وتركهم في ظلمات لا يبصرون
وفي أضاءت قولان أحدهما أنه من الفعل المتعدي قال الشاعر
أضاءت لهم أحسابهم ووجوههم
دجى الليل حتى نظم الجزع ثاقبه
وقال آخر أضاءت لنا النار وجها أغر
ملتبسا بالفؤاد التباسا
والثاني أنه من الفعل اللازم قال أبو عبيد يقال أضاءت النار وأضاءها غيرها وقال الزجاج يقال ضاء القمر وأضاء
وفي ما قولان أحدهما أنها زائدة تقديره أضاءت حوله والثاني أنها بمعنى الذي وحول الشئ ما دار من جوانبه والهاء عادة على المستوقد فان قيل كيف وحد فقال كمثل الذي استوقد ثم جمع فقال ذهب الله بنورهم فالجواب أن ثعلبا حكى عن الفراء أنه قال إنما ضرب المثل للفعل لا لأعيان الرجال وهو مثل للنفاق وإنما قال ذهب الله بنورهم لأن المعنى ذاهب الى المنافقين فجمع لذلك قال ثعلب وقال غير الفراء معنى الذي الجمع وحد اولا للفظه وجمع بعد لمعناه كما قال الشاعر
فان الذي حانت بفلج دماؤهم
هم القوم كل القوم با أم خالد
فجعل الذي جمعا
اختلف العلماء في الذي ضرب الله تعالى له هذا المثل من أحوال المنافقين على قولين أحدهما أنه ضرب بكلمة الإسلام التي يلفظون بها ونورها صيانة النفوس وحقن الدماء فاذا ماتوا سلبهم الله ذلك العز كما سلب صاحب النار ضوءه وهذا المعنى موي عن ابن عباس والثاني أنه ضرب لإقبالهم على المؤمنين وسماعهم ما جاء به الرسول فذهاب نورهم إقبالهم على الكافرين والضلال وهذا قول مجاهد
وفي المراد ب الظلمات ها هنا أربعة أقوال أحدها العذاب قاله ابن عباس والثاني ظلمة الكفر قاله مجاهد والثالث ظلمة يلقيها الله عليهم بعد الموت قاله قتادة والرابع أنها نفاقهم قاله السدي
وفي ضرب المثل لهم بالنار ثلاث حكم
إحداها أن المستضيء بالنار مستضيء بنور من جهة غيره لا من قبل نفسه فاذا ذهبت تلك النار بقي في طلمة فكأنهم لما أقروا بألسنتهم من غير اعتقاد قلوبهم كان نور إيمانهم كالمستعار
والثانية أن ضياء النار يحتاج في دوامه الى مادة الحطب فهو له كغذاء الحيوان فكذلك نور الإيمان يحتاج الى مادة الاعتقاد ليدوم
والثانية أن الظلمة الحادثة بعد الضوء أشد على الإنسان من ظلمة لم يجد معها ضياء فشبه حالهم بذلك
قوله تعالى صم بكم عمي
الصمم انسداد منافذ السمع وهو أشد من الطرش وفي البكم ثلاثة أقوال أحدها أنه الخرس قاله مقاتل وأبو عبيد وابن فارس والثاني أنه عيب في اللسان لا يتمكن معه من النطق وقيل إن الخرس يحدث عنه والثالث أنه عيب في الفؤاد يمنعه ان يعي شيئا فيفهمه فيجمع بين الفساد في محل الفهم ومحل النطق ذكر هذين القولين شيخنا
قوله تعالى فهم لا يرجعون
فيه ثلاثة أقوال أحدها لا يرجعون عن ضلالتهم قاله قتادة ومقاتل والثاني لا يرجعون الى الإسلام قاله السدي والثالث لا يرجعون عن الصمم والبكم والعمى وإنما أضاف الرجوع إليهم لأنهم انصرفوا باختيارهم لغلبة أهوائهم عن تصفح الهدى بآلات التصفح ولم يكن بهم صمم ولا بكم حقيقة ولكونهم لما التفتوا عن سماع الحق والنطق به كانوا كالصمم البكم والعرب تسمي المعرض عن الشئ أعمى والملتفت عن سماعه أصم قال مسكين الدارمي ما ضر جارا لي أجاوره
ألا يكون لبابه ستر
أعمى إذا ما جارتي خرجت
حتى يواري جارتي الخدر
وتصم عما بينهم أذني
حتى يكون كأنه وقر
قوله تعالى أو كصيب من السماء أو حرف مردود على قوله مثلهم كمثل الذي استوقد نارا البقرة 17 واختلف العلماء فيه على ستة أقوال أحدها انه داخل ها هنا للتخيير تقول العرب جالس الفقهاء أو النحويين ومعناه انت مخير في مجالسة أي الفريقين شئت فكأنه خيرنا بين أن نضرب لهم المثل الأول او الثاني
والثاني انه داخل للابهام فيما قد علم الله تحصيله فأبهم عليهم مالا يطلبون تفصيله فكأنه قال مثلهم كأحد هذين ومثله قوله تعالى فهي كالحجارة أو أشد قسوة البقرة 74 والعرب تبهم ما لا فائدة في تفصيله قال لبيد تمنى ابتناي أن يعيش أبوهما
وهل أنا ألا من ربيعة أو مضر
أي هل أنا إلا من أحد هذين الفريقين وقد فنيا فسبيلي أن أفنى كما فنيا
والثالث أنه بمعنى بل وأنشد الفراء بدت مثل قرن الشمس في رونق الضحى
وصورتها او انت في العين أملح
والرابع أنه للتفصيل ومعناه بعضهم يشبه بالذي استوقد نارا وبعضهم بأصحاب الصيب ومثله قوله تعالى كونوا هودا أو نصارى البقرة 135 معناه قال بعضهم وهم إليهود كونوا هودا وقال النصارى كونوا نصارى وكذا قوله فجاءها بأسنا بياتا أو هم قائلون الأعراف 4 معناه جاء بعضهم بأسنا بياتا وجاء بعضهم بأسنا وقت القائلة
والخامس انه بمعنى الواو ومثله قوله تعالى أن تأكلوا من بيوتكم أو بيوت آبائكم النور 61 قال جرير نال الخلافة أو كانت له قدرا
كما أتى ربه موسى على قدر
4
السادس أنه للشك في حق المخاطبين إذ الشك مرتفع عن الحق عز وجل ومثله قوله تعالى وهو أهون عليه الروم 37 يريد فالإعادة أهون من الابتداء فيما تظنون
فتح القدير – الشوكاني ج1/ص47
مثلهم كمثل الذي استوقد نارا قال هذا مثل ضربه الله للمنافقين كانوا يعتزون بالإسلام فيناكحهم المسلمون ويوارثونهم ويقاسمونهم الفيء فلما ماتوا سلبهم الله العز كما سلب صاحب النار ضوءه وتركهم في ظلمات لا يبصرون يقول في عذاب صم بكم عمي فهم لا يسمعون الهدى ولا يبصرونه ولا يعقلونه وأخرج ابن جرير عن ابن مسعود وناس من الصحابة في قوله مثلهم كمثل الذي استوقد نارا قالوا إن ناسا دخلوا في الإسلام عند مقدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة ثم نافقوا فكان مثلهم كمثل رجل كان في ظلمة فأوقد نارا فأضاءت ما حوله من قذى وأذى فأبصره حتى عرف ما يتقي فبينما هو كذلك إذ طفئت ناره فأقبل لا يدري ما يتقي من أذى فكذلك المنافق كان في ظلمة الشرك فأسلم فعرف الحلال من الحرام والخير من الشر فبينما هو كذلك إذ كفر فصار لا يعرف الحلال من الحرام ولا الخير من الشر فهم صم بكم هم الخرس فهم لا يرجعون إلى الإسلام وأخرج ابن جرير عن ابن عباس في قوله كمثل الذي استوقد نارا قال ضربه الله مثلا للمنافق وقوله ذهب الله بنورهم قال أما النور فهو إيمانهم الذي يتكلمون به وأما الظلمة فهو ضلالهم وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس مثله وأخرج عبد ابن حميد وابن جرير عن مجاهد نحوه وأخرجا أيضا عن قتادة نحوه وأخرج ابن أبي حاتم عن عكرمة والحسن والسدي والربيع بن أنس نحو ما تقدم
البقرة19 20 عطف هذا المثل على المثل الأول بحرف الشك لقصد التخيير بين المثلين أي مثلوهم بهذا أو هذا وهي وإن
معاني القرآن – النحاس ج1/ص101
قال جل وعز مثلهم كمثل الذي استوقد نارا
قال ابن كيسان استوقد بمعنى أوقد ويجوز أن يكون استوقدها من غيره أي طلبها من غيره
قال الأخفش هو سعيد الذي في معنى جمع قال ولكنه واحد شبه به جماعة لان القصد كان الى الفعل ولم يكن الى تشبيه العين بالعين فصار مثل قوله تعالى ما خلقكم ولا بعثكم إلا كنفس واحدة فالمعنى الا كبعث نفس واحده
وكإيقاد الذي استوقد نارا
ثم قال جل وعز فلما أضاءت ما حوله ذهب الله بنورهم
ويجوز ان يكون ما بمعنى الذي وان تكون زائدة وان تكون نكره و المعنى أضاءت له فابصر الذي حوله