الدرجة الأولى للصمم (الصمم الإرادي النفسي)

الدرجة الأولى للصمم

(الصمم الإرادي النفسي)

 

يقول سبحانه وتعالى (وَحَسِبُواْ أَلاَّ تَكُونَ فِتْنَةٌ فَعَمُواْ وَصَمُّواْ ثُمَّ تَابَ اللّهُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ عَمُواْ وَصَمُّواْ كَثِيرٌ مِّنْهُمْ وَاللّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (71) (المائدة)

 

مختصر أقوال المفسرين في هذه الآية:

كرر الله تعالى في هذه الآية الكريمة قوله (عموا وصموا) مرتين تتخللهما توبة من الله والمعني فيها بني إسرائيل وحسبوا أن لا تكون فتنة أي بلاء أو اختبار, و ذكر المفسرون في الفتنة وجودها وهي محصورة بين عذاب الدنيا وعذاب الآخرة , وأن عذاب الدنيا أقسام منها القحط والوباء والقتل والعداوة والبغضاء فيما بينهم والإدبار والنحاسية وكل ذلك قد حل بهم أي ظنوا أن معصيتهم وتكذيبهم لا يجر عليهم عذاب , فعموا وصموا تعبير عن تماديهم على المخالفة والعصيان .
والآية دالة على أن عميهم وصممهم عن هديهم للحق حصل مرتين الثانية قرئت وصموا ثم بالضم على تقدير أن الله أعماهم وأصمهم أي رماهم وضربهم بالعمى, والصمم كما تقول نزكته إذا ضربته بالنزك , وهو رمح قصير وركبته إذا ضربته بركبتك .
وقال بعض المفسرين لا شك أن المراد بهذا العمى والصمم هو الجهل والكفر فعموا عن الحق ، أي (فعموا وصموا) يعني عموا عن الحق وصموا عن الهدى أو يعني لم يعملوا بما سمعوا ولم يعتبروا بما أبصروا فصاروا كالأعمى والأصم .
وذكر الزجاج وهو احد علماء التفسير المعروفين في ذلك أنهم لم يعملوا بما سمعوا ورأوا من الآيات فصاروا كالعميان الصم تمثيلا أي لم يعملوا بما سمعوا ولا انتفعوا بما رأوا ثم نعشهم وتاب عليهم حين تابوا إليه وأنابوا ثم لم يستمروا على ذلك حتى انقلب أكثرهم إلى الحال القبيحة حيث عموا وصموا كثير منهم بهذا الوصف والقليل واستمروا على توبتهم وإيمانهم، والله بصير بما يعملون أي من قتل الأنبياء وتكذيب الرسل والمقصود منه التهديد أو المقصود من قتل الأنبياء وتكذيب الرسل ومن هنا يظهر الفرق في السمع والبصر من الإيمان وآثاره والكفر وآثاره .
يتبين لنا من ذلك أن المفسرين تحيروا في إعطاء تحقيق متكامل لتفسير هذه الآية لكن التفسير العلمي قد يعطي مفهوم أكثر كما يتبين أدناه :

 

 

التفسير العلمي والإعجاز القرآني

 

8

 

 

الكلام هنا عن بني إسرائيل وهم بكبريائهم الفارغ يظنون أن الله لن يفتنهم فهم آمنون من العقوبات لذلك فهم عموا وصموا ، وهم كما نعلم بكامل صحتهم من حيث السمع والبصر لكنهم بالرغم من ذلك يقول سبحانه وتعالى عنهم أنهم عموا وصموا ! فلنتمعن اللفظ في هذه الآية إذ أن الدقة اللفظية هنا أن الله عز وجل لم يتكلم عن أعينهم ولا عن آذانهم بل تكلم عن عمليتي الإبصار والسمع ، فقد وجد علماء الفسلجة وعلماء النفس والأطباء أن هناك علاقة مباشرة بين السمع والبصر من ناحية والإرادة من الناحية الأخرى (عن كتاب سكوت براون للأذن والأنف والحنجرة ) ، فالإرادة والوعي التي يسميها سبحانه وتعالى بالقلب,  مقره قلب الدماغ حيث يكون مركز الوعي ، والذي عند تلفه يفقد الإنسان وعيه ويسميه العلماء HYPOTHALAMUS) )(ما تحت سرير الدماغ أو ما تحت المهاد)، والوعي مهم جدا بالنسبة للسمع والبصر ، ففي المركز الدماغي تفسر الايعازات السمعية والبصرية ثم بعد ذلك توزع داخل الدماغ إلى نقاط مختلفة والى مهاد الدماغ مما يجعلنا نعي ما سمعناه وما أبصرناه ، وهناك منطقه تسمى منطقة ونكز( WERNICK”S AREA) في الدماغ تقوم بالتنسيق بين ما يسمع وما يوعى وهي من مجاورات منطقة السمع , وعند تلف هذه المنطقة فان الإنسان يسمع ولا يعي (كتاب كايتون وهل للفسلجة ص718)

 

9

 

أي أن هناك انعكاس شديد السرعة ولكن السامع لم يفهم ما قيل بالرغم من انه يسمع بكامل الوضوح ، وفي جزئية هذا قد يعيش الإنسان في مكان وأمامه حاجة لا يكاد يراها وقد يبحث عنها وهى أمامه فإذا جاء شخص من الخارج لاحظها مباشرة ، وعلى سبيل المثال هب أنك تعيش قرب مطار أو محطة قطارات ولا تكاد تحس بأصواتها وضجيجها وحتى في نومك بينما يأتي آخر من مكان مختلف هادئ أو غير هادئ فقد تزعجه تلك الأصوات ، وقد لا يستطيع النوم فيستيقظ مع مرور أي قطار أو إقلاع طائرة (عن كتاب سكوت براون ) ، ويتمكن الإنسان بإرادته أو بالتأثير النفسي الداخلي أن لا يسمع فيلغي حاسة سمعه وبصورة تدريجية بحيث لا يكترث حتى وهو نائم لصوت القطار والطائرة , ومثال على ذلك قد تجلس في مقهى وفيه عشرات المتكلمين فتضع تركيزك على احدهم وتلغي أصوات الباقين ، وقد تلغى كل الأصوات وتنظر إلى شيء محدد وكأنك لا تسمع شيئا ، وربما يجلب انتباهك صوت محدد أو ذكر اسم فتلتفت وتعي ما سمعت وهكذا ، أي انك تكون أصما بإرادتك وهذا ما جرى لبنى إسرائيل فهم رأوا بأعينهم آيات بينات وسمعوا بإذنهم ولكنهم تغاضوا وتجاهلوا ما رأوا وما سمعوا ظنا منهم أن لن يفتنوا ولن يتعرضوا إلى شدة وامتحان بعد ذلك ، حتى إذا أصابهم شيء انتبهوا وتذكروا وسمعوا ورأوا ثم مرت أيام فنسوا وعادوا إلى سجيتهم فتجاهلوا ما سمعوا إلى درجة الإهمال الكلى ، وهذا ينعكس على مجموع إرادة الإنسان فيودى به إلى الخمول العقلي والبلادة في موضوع محدد لا يريد سماعه أو رؤيته ، ومع هذا تاب الله عليهم في المرة الأولى ولم يستفيدوا من التجربة التي نبههم الله عليها وأعادهم إلى الوعي التام ، بل وفي أول فرصة لهم رجعوا إلى عادتهم الأولى فعموا وصموا ، في هذه الآية دليل واضح لما يسمى الصمم الإرادي أو (الإرادي النفسي ) والذي تكون فيه الأذن سليمة فسلجيا فان الأذن لم يصبها أي أذى في منظومة السمع ولا في منظومة الأعصاب الناقلة ولا في المركز السمعي ، ولكن بإرادتهم بل بزيغهم وإتباعهم لأهواء الشيطان تجاهلوا ما سمعوا وهذا التجاهل الذي يتم في مجمل المركز الدماغي العلوي الذي تتم فيه المعالجة ثم التواصل مع النطق والإرادة والوعي ليتم الاستفادة من الإشارات والحواس القادمة ، إذا استمر هذا التجاهل ( الصمم الإرادي ) فان حاله من ضعف الذكاء والبلادة العقلية تظهر وقد تصل إلى مستوى الخبل أو بمعنى آخر أن يختم الله على قلوبهم ( والعياذ بالله ) وخاصة إذا كان مع هذا التجاهل عمل كفري أو حرام ، والحرام أو العمل الضال سيضيف هيكلية للإرادة ويثبت الإنسان باتجاه ضال والعياذ بالله (كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ (14) كَلاَّ إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ (15)) لذلك عندما يقول سبحانه وتعالى عنهم ( فعموا وصموا ) فهو اقل درجة للصمم المعروف علميا حيث نظام الأذن وفسلجتها سليم ولكن الخلل هو بعد المركز الدماغي العلوي للسمع ، عند نقل المعلومات إلى المراكز الأخرى والى الوعي .وقد أحتار المفسرون في كيفية حدوث ذلك لذلك قالوا((أن المراد بهذا العمى والصمم الجهل والكفر فعموا عن الحق . وقال آخر, فعموا وصموا يعني عموا عن الحق وصموا عن الهدى أو يعني لم يعملوا بما سمعوا ولم يعتبروا بما أبصروا فصاروا كالأعمى والأصم , قال الزجاج هذا مثل تأويله أنهم لم يعملوا بما سمعوا ورأوا من الآيات فصاروا كالعميان الصم تمثيلا أي لم يعملوا بما سمعوا ولا انتفعوا بما رأوا)) ولكن ثبت علميا أن هذا النوع من الصمم هو أول درجه من الصمم وهو إرادي ويحاسب الإنسان عليه قانونيا أي في القوانين الأوربية لأنه صمم ولكن من صنع الإنسان وبإرادته لذلك سيحاسب إذا ترتب على هذا الصمم جرم، بهذا نرى أنهم عموا وصموا حقيقة لا مجازا، وهذه معجزه من المعجزات القرآنية.

اترك تعليقاً