جاري السارق
قلت له:
– لا أصدق حتى وإن رأيت بعيني!.
– عجيب أمرك! لماذا؟
– لأن ما تقوله لا يصدق.
نظر إلي مرة أخرى وأطال النظر.
– أتعرف؟ لقد رأيتهم بعيني، أقسم لك.
كان جاري عبدالله مزارعا يعمل بأرضه التي لا تبعد عنا كثيرا، وتفصل بيتنا عن النهر، واعتاد أن يزرع الخس وبعض الخضار في مثل هذه الأيام.
– أنا لا أصدق أن الأستاذ ياسين يسرق.
– هل يعني ذلك أني كذاب!؟
– لا يا عم عبدالله، حاشاك! ولكن إذا قلت لك: لا أصدق؛ فلا يعني بالضرورة أنك كاذب!. فقد يكون الأمر غير واضح لك ، أو نقل إليك خطأ، فلا يعقل أن شخصا مثل الأستاذ الفاضل ياسين يمكن أن يسرق!. وتعرف أنت جيدا أنه رجل طيب، وذو دين، وأخلاقه تدل على ذلك، وقد عرفناه وعاشرناه مدة طويلة، فكيف تريدني أن أصدق أنه يسرق!؟
– ولكني قلت لك: إني رأيته بعيني.. هو وزوجته ذهبا في منتصف الليل وسرقا من الحقل وباعاه في السوق، وفي الصباح سمعته يقول لزوجته: كانت البيعة جيدة!.
– قلت: في منتصف الليل يا عم عبدالله! في منتصف الليل!؟ وأنت في وضح النهار لا ترى جيدا, ألم تقل لي البارحة عن ابني مصعب: إنه أسامة!؟ وهو يقف على بعد أمتار منا!.
– اذاً؛ أنت تشكك بي، وتريد أن ترى بعينك.
– نعم!.
– وإذا كان كلامي صحيحا!؟
– سأشوي لك دجاجة إن كان كلامك -لا سمح الله- صحيحا، ولكن ستشوي لنا دجاجتين واحدة لي وواحدة للأستاذ ياسين إن كان كلامك غير صحيح!.
– أوافق على ذلك، وسنذهب اليوم في منتصف الليل ونكمن في المزرعة.
خرج العم عبدالله الذي جاوز السبعين، ولكنه لا زال رغم ذلك مازال نشيطا جدا، ويزرع حقله بنفسه، ويقوم بأعمال السقي والجني وكأنه في عنفوان شبابه. خرج وهو يدمدم بكلام غير مفهوم علامة لعدم الرضا!. وهل أصدق أن أستاذنا الجليل الذي درسنا في المرحلة الثانوية، وعلمنا الدين والأخلاق والإخلاص في العمل؛ يسرق!؟
لقد كان الأستاذ ياسين قد تقاعد منذ عشرين سنه تقريبا، وفي المدة الأخيرة كان همه تدريس القرآن في المساجد مجانا وخاصة في العطلة الصيفية، إضافة إلى خدمته لمسجد الحي. إنه مثال الأدب والأخلاق، وإذا رأيته فإنك تحبه من أول نظرة! لقد كان إمامنا في الصلاة هذا الصباح، وكان يقرأ القرآن بصوت ندي مؤثر! فكنا نتمنى أن يستمر في القراءة إلى طلوع الشمس! حتى عتب عليه أحد المصلين لأنه لم يطل صلاته!.
والحقيقة؛ لقد رأيت آثار الطين على قدميه، وسألته عن السبب فلم يستطع الإجابة..!. هل من الممكن لشخص مثل الأستاذ ياسين أن يخدعنا؟ مستحيل!! والله إنها من وساوس الشيطان، فلو كان للأولياء علامات فهو من أولياء الله، ولا نزكي على الله أحدا. فكم مرة رأيته في المنام وهو يلبس حلة، أو يصعد سلما، أو يصافح نبينا محمدا (صلى الله عليه وسلم)!. فلن أصدق وإن رأيته بعيني! وأفضل أن تعمى عيني على أن ترى مثل الأستاذ ياسين يسرق..! سأذهب مع العم عبدالله اليوم، وآكل الدجاجة غدا! لقد رأيت دجاجات تتراكض في الشارع أمام منزل العم عبد الله، وعينت لي دجاجه سمينة، وأنا متأكد من أنني سأفوز بها!.
مر بي العم عبدالله مساء بعد العاشرة، وكان الجو باردا مما اضطره إلى لبس فروته، وقد حمل معه سلاحه الذي لا يفارقه.
– انتبه يا أبا مصعب! فالجو بارد، وقد نبقى في الحقل إلى الصباح. استدرت إلى الدار, وناديت بأعلى صوتي:
– يا أم مصعب سنتأخر هذا اليوم فلا تقلقي..
خرجنا بعد أن لبست ما يحميني من البرد، واتجهنا إلى الحقل، وبعد ثلاثين مترا عبرنا ساقية ماء كبيرة كدت أن أسقط فيها لكثرة ما لبست! ومررنا من خلال حقل الخس إلى أن وصلنا قريبا من النهر تماما حيث توجد ساقية ماء جافة، فقررنا أن نكمن فيها، وجئنا بكمية من الشوك لزيادة التخفي، وجلسنا هناك نأكل الخس، ونتجاذب الحديث، وكان النعاس يغالبني حتى ظننت أنني نمت قليلا.
– انظر! ها قد جاءا..
نظرت إلى الجهة التي أشار إليها، وإذا بشبحين مازالا بعيدين عنا، وكنا نراهما جيدا في ضوء القمر, خفق قلبي بشدة، ودعوت الله أن لا يكون الأستاذ ياسينا! وكانا يقتربان منا شيئا فشيئا، وما إن توسطا الحقل حتى رأيت أحدهما يرفع اللثام عن وجهه, يا إلهي! إنه هو! الأستاذ ياسين!!!!!
كاد نفسي أن ينقطع، وجف حلقي, وهذه زوجته أعرفها جيدا، لقد جاوزت الخامسة والستين من العمر، وكانت هي تعمل مدرسة كزوجها، وما عرفنا عنها إلا الطيب، وكان لهما ولد واحد توفي وهو صغير، ولم أرها يوما متضجرة!. وهل الذي يعيش مع الأستاذ ياسين يحس بضجر!؟ لا أظن ذلك. اقتربا منا أكثر، فطلبت من العم عبدالله أن لا يتكلم خوفا من أن يسمعانا.
– هل صدقت كلامي؟
– لا، ليس بعد!.
– ترى بعينك ولا تصدق!؟
– اخفض صوتك!.
مرا قربنا، وكنت أسمعه جيدا وهو يمشي على عادته ويسبح، ومرا عبر حقل الخس الذي كان ينتهي عند النهر مباشرة، واستدارا خلف مضخة ماء الحقل ونزلا إلى النهر، وصارا قريبين جدا منا، وكنت أراه بوضوح. وضعا ما كانا يحملان على رمال الشاطئ، وأخرج الأستاذ ياسين سنارة لصيد السمك، بينما أخرجت زوجته غربالا وعلبة صغيرة أخرجت منها حشرة، ووضعتها في الماء بعد أن غمرت الغربال!..
– الماء بارد جدا. قالت زوجته وهي تنظر إلى الحشرة في الماء، ووضع الأستاذ ياسين طُعْما في سنارته، وهيأها ثم رماها في النهر، وجلس قربها تماما.
– أنا أعرف أن الماء بارد؛ لذلك ربطت لك سلكين في الغربال، فإذا جاءت سمكة إلى الحشرة ستصطادينها بسهولة.
– ولكنا لم نصطد سمكا البارحة.
– لقد اصطدنا قبل البارحة خمس سمكات، أنا اصطدت اثنتين، وأنت ثلاثا، فلا تحتقري غربالك فهو أحسن من سنارتي.
– أنا لا أحتقره يا زوجي العزيز، لا، بل انا فرحة به.
سكتت قليلا، ونظرت إلى زوجها الذي يمسك الخيط بأصبعه وهو يراقبه.
– يا عزيزي! هل مثل هذا العمل يناسبنا؟ نصطاد في منتصف الليل وكأننا نسرق!؟
– هذا أحسن! ماذا لو عرف الناس بحاجتنا!؟ أتقبلين أن يتصدق علينا الناس!؟ ثم إن العمل من خلق الأنبياء عليهم السلام، فنبي الله داود كان يأكل من عمل يده. وأنت تعرفين فمنذ بداية الحصار وراتبنا التقاعدي لا يكفينا، وأنا تركت التدريس منذ مدة طويلة، والمناهج تغيرت، ولم أعد أصلح إلا لتدريس القرآن..
– ألم يطلب منك الأستاذ إحسان أن تدرس أولاده الصغار مقابل ثمن؟
– ولكنك تعلمين يا عزيزتي أنه لا أخلاق له، وأولاده كذلك، وماله مشبوه! وفي أول يوم ذهبت إليه كانوا يعاملونني كخادم. لا يا عزيزتي، هذا لا يليق بي! ثم إن تعليم القرآن في المسجد له ثواب عظيم، وقد أعطوني مبلغا من المال في الصيف الماضي هدية للمدرسين، وكان -والحمد لله- سدادا لديننا بالتمام.
– يا عزيزي! ألا يمكن أن نبيع شيئا من أثاث البيت!؟
– تعرفين – يا عزيزتي- لم يبق لنا سوى الدار، وهذه سترنا، ولن أبيعها. فإن حدث لي شيء فإنك تستطيعين أن تؤجري قسما منها وتستعيني به على العيش، أما الأثاث فقد بعنا ما يمكن بيعه!.
– نعم يا عزيزي؛ بعنا كل الفرش والبراد والثلاجة والمراوح! حتى بعنا بعض أثاث المطبخ! ولم نبق إلا الضروري جدا، وحتى الصندوق الذي تركته لي أمي…
وأخذت بالبكاء, فضع يده على رأسها، وقال:
– لا يا عزيزتي! لا زلنا بخير، فنحن بصحة جيدة، وهذه وحدها نعمة عظيمة، واصبري فإن الله مع الصابرين، وتذكري قصة نبي الله أيوب عليه السلام، عندما كان له مال كثير، وأولاد ففقدهم كلهم، وفقد صحته، ومع هذا صبر!. أتعرفين يا عزيزتي أن كثيرا من الناس ينظرون إلينا بحسد!؟ فأنت تعرفين الأستاذ عبد الكريم الذي له نفس راتبنا، ولا بيت له يستره!؟
استدارت إليه وقالت بصوت خافت:
– أكاد أن أموت من الجوع، فلم نتعش هذه الليلة! فلنأكل قليلا من هذا الخس.
انتفض الأستاذ ياسين واقفا غاضبا، وقال:
– لا..! ولا حتى من الأخضر الذي يرمى للأغنام.
– ولكن من المتعارف بين الناس يا عزيزي أن الذي يدخل الحقل له الحق في الأكل على ألا يأخذ معه شيئا.
– هذا في النهار وأمام أهله، أما الآن فلا..
– ألم نتعب لسنوات طويلة في التدريس، وكم خدمنا الناس ودرسنا أولادهم مجانا خارج الدوام! ألا نستحق الآن رعايتهم..!؟
قطعت كلامها وصاحت بشكل عفوي:
– سمكة كبيرة!
ورفعت الغربال، وكانت السمكة تتقافز فوقه.
– وأنا اصطدت سمكة يا عزيزتي!
وقام من مكانه وسحب الخيط ورجع بسرعة إلى الخلف، وتعثر بحجر كان خلفه وسقط على رمال الشاطئ، وصاح بأعلى صوته:
– اسحبي يا عزيزتي الخيط، فقد تهرب السمكة.
– لا..، لن أدعها، لقد تعلمت الصيد يا عزيزي.
سحبت السمكة إلى الخارج، وكانت كبيرة، وقام الأستاذ ياسين ينفض ملابسه وهو ينظر إلى السمكة.
– إنها تزيد على ثلاثة كيلوات، إنها ثروة يا عزيزتي..!