عائشة والنهر
بنتي عائشة في العاشرة من عمرها، عيناها جميلتان ترى في داخلها ذكاء ثاقب اثر على بنيتها فبالرغم من العافية التي تراها في وجهها لكنها نحيفة شيء ما.
جلست معها قرب النهر الذي هو قريب من دارنا نظرت إلى الماء الذي يجري في النهر بغزارة فسألتني:
– يا ابتي هل الماء في النهر يجري ليل نهار ؟
– نعم.
– ولا يتوقف أبدا ؟
– نعم.
– فهل تتصور يوماً أن الماء سيتوقف عن الجريان أو انه يجري عكس الاتجاه ؟
ذهلت لما قالت فنظرت إليها وكان الهواء العليل يداعب خصلات شعرها الكستنائية فالهواء يجري بكل الاتجاهات أما النهر فلا مجال إلا أن يجري باتجاه واحد فقلت لها:
– يا بنتي وما يعني لك توقف النهر ؟
فأجابت بسرعة:
– يعني أن الحياة توقفت فالله جعل من الماء كل شيء حي.
قطبت حاجبيها و كأنها تتأمل شيء ما، فقلت لها:
– بما تفكرين يا عائشة ؟
فقالت:
– النهر ليس ماءً فقط فهو جميل جداً والطيور التي تطير فوقه والأسماك التي تعيش فيه والناس الذين يسقون منه كلهم يمثلوا النهر وأنا احد صديقات النهر وصديقتي قالت لي إنها تحب النهر وتحب أباها يعني أن النهر احد أقربائها ولكن يضل الماء الجاري فيه كالروح له.
ركضنا إلى البيت بعد أن كادت الشمس تختفي خلف النخيل، نظرت عائشة خلفها وكأنها كانت تودع النهر وكان النهر يودع الشمس كذلك.
بعد أيام رجعت عائشة من المدرسة وكعادتها والحقيبة معلقة على ظهرها وتتمايل في مشيتها (التي أحبها كثيراً) ولكن ما إن دخلت حتى رأيت أثار القلق عليها فوجهها قد امتقع وعيناها قد ذبلت ويداها ترتجفان، فسألتها:
– ما بك يا عائشة ؟
فأجابت بصوت متقطع وتكاد أن تبكي:
– صديقتي تقول إن النهر قد جف.
– لا يا بنتي هذا مستحيل.
– لقد أقسمت لي يا ابتي- وانفجرت في البكاء-
فقلت لها:
– لا يا ابنتي اطمئني وسنذهب الآن إلى النهر و طمأنتها.
أخذنا معنا وكعادتنا بعض الفاكهة في سلتها الصغيرة وذهبنا سيراً إلى النهر الذي يبعد عنا مئة متر فقط وما إن وصلت حتى دهشت ولم اعرف ما أقول أما ابنتي عائشة فتسمرت للحظات وسقطت سلة الفاكهة من يدها وانهارت الدموع من عينها و أصدرت بكاءً خافتاً واستدارت راكضة إلى البيت، لم الحق بها إلا وهي في فراشها ترتجف فقلت لها:
– يا بنتي لا تخافي فالسدود على النهر تنظم الماء فلا بد أنهم اقفلوا السدود لعدم حاجة الناس إلى الماء في هذه الأيام.
ولكن عائشة ضلت تبكي، انهالا تفهم إلا أن النهر لا يتوقف، نظرت إليها وربتَ على كتفها:
– سيرجع الماء غزيراً في النهر لا تقلقي يا بنيتي.
لكنها لم تأكل ذلك اليوم بالرغم من محاولات أمها معها. في اليوم التالي لم تذهب إلى المدرسة ولم تأكل أبدا وحاولت معها بصعوبة فشربت كوباً من الحليب وأصبح وجهها شاحباً.
– يا بنيتي النهر لن يتوقف تأكدي.
فأجابت بحركة من رأسها وبصوت خافت:
– ولكنه توقف.
جلست معها ساعة أحاول إقناعها بان النهر قوي وهو لا يزال يجري ولكن لم يقنعها كلامي، إنها تريد أن ترى النهر غزيراً كما كان، مرت يومين ولا زالت على حالها وصحتها تتدهور حتى إنني أصبحت في موقف صعب ولا ادري ما افعل، اتصلت في ذلك اليوم بمديرية الري واخبروني أن الماء ينظم في سد حديثة ولا علاقة لهم مباشرةً به، اتصلت بمديرية الري في العاصمة فاخبروني أن هذا إجراء روتيني ففي الأيام التي يقل السقي فيها فإنهم يستغلون ذلك للتخزين والماء بات شحيحاً من تركيا. طلبت من مسئول الري أن يرفعوا مستوى ماء النهر لان حالة ابنتي عائشة أصبحت في خطر.
فضحك مقهقهاً:
– لا يا أستاذ نحن لا نضع سياسة الري على هوى ابنتك.
توسلت إليه لكنه رفض، ذهبت في اليوم التالي لأرى النهر لا زال على حاله وحالة عائشة تسوء.
قالت أمها:
– أظن أن فيها مرضا، لماذا لا تنقلها إلى المستشفى ؟
نظرت إليها بحنان ولم انطق بكلمة واحدة فانا اعرف السبب.
في اليوم التالي اتصلت بمسئول الري وطلبت منه إخباري متى يرفعوا مناسيب النهر فاخبروني قريباً إن شاء الله.
– ارجوك بسرعة فقد تقتلوا ابنتي عائشة.
– حاضر، سأحاول أن يكون غداً.
في اليوم التالي ذهبت إلى النهر من الفجر و جلست هناك أراقبه ولا أريد أن أعود قبل أن أرى النهر غزيراً وبقيت عيني لا تفارق النظر إليه إلى قبيل غروب الشمس ولاحظت أن الماء بداً يرتفع، طرت راكضاً إلى عائشة:
– عاد النهر، عاد النهر.
فتحت عيناها الذابلتان ونطقت:
– صحيح؟
– نعم بكل تأكيد.
قامت من مكانها وحملت سلة الفواكه ووضعت معها سندويج الجبن سرنا إلى النهر وما إن وصلنا إليه حتى كان ماؤه غزيراً، جلست تأكل وهي تنظر إلى النهر فرحة وصوت ضحكاتها يسمع من الشاطئ الآخر.