الشيخ والبئر
ياللبئر العميقة! قالها وهو ينظر إلى أسفل وقد تعلق بخشبة مهترئة رطبة، وعرقه يتصبب، وعلامات الخوف زادت من تجعدات وجهه وأخاديده، ولحيته الطويلة التي لاتوجد فيها شعرة سوداء يتقاطر منها حبات العرق..
حاول أن يحرك يده ليثبتها أكثر فكانت النتيجة أن الخشبة تفتتت تحت يده، وأصبحت كالمسامير. مرت عدة دقائق وهو على هذه الحالة وخارت قواه الضعيفة. حاول مرة أخرى فرفع قدميه إلى الأعلى، واستطاع بصعوبة أن يلف رجليه حول الخشبة فأحس بانتصار كبير وراحة حيث خف الضغط عن يديه.
ياإلهي كدت أسقط!. قالها في نفسه حين ظن أنه نجا. لا يدري ما يفعل!. لقد كان مع حفيده عبدالله في جولة في الصحراء عندما نفد الماء منه, كان الصغير الذي لا يزيد عمره على ثماني سنوات يردد باستمرار:
– جدي أريد ماء.. جدي عطشان!.
– لا بأس، هناك بئر قريبة سوف نشرب منها الماء.
– جدي! لا أستطيع المشي من العطش.
– اصبر ياابني! إنك قوي، وسوف تصل إلى الماء بعد قليل، لا تخف، انظر.. هناك البئر وسنصلها بعد دقائق.
– احملني ياجدي على ظهرك.
– ياابني عمري كبير وأنت ثقيل.
– ارجوك ياجدي!.
– حسنا سأحملك, انظر.. وصلنا إلى البئر, لا تقترب من البئر حتى لا تسقط.
نظر الشيخ إلى البئر، وكان هناك حبل مربوط بخشبة تستند إلى طرفي البئر الطينية ودلو في آخره, فسحب الحبل فخرج الدلو فارغا ليس فيه ماء. أرسل الحبل مرة أخرى ونظر إلى الدلو, إنه لايصل إلى الماء، فالبئر عميقة جدا، لم تبق إلا أمتار، والعملية بسيطة!.
سحب الحبل وربط (اليشمغ) في نهاية الحبل، ثم مده مرة أخرى، ونظر إلى الدلو، لم يبق إلا نصف متر ويصل الدلو إلى الماء. قال في نفسه:
– سأستند إلى هذه الخشبة، وأمد يدي قليلا لعلي أوصل الدلو.
وضع قدمه على حجر في حافة البئر ومد يده، لم يبق إلا شبر واحد، مد يده أكثر، وإذا بالحجر ينزلق إلى داخل البئر، ويسقط في الماء محدثا صوتا قويا، فلم يستطع الشيخ التوازن فهوى إلى البئر!. تمسك بالخشبة التي استند إليها، ولكنها كانت مهترئة فسقطت معه وانحشرت في منطقة أضيق من فوهة البئر تبعد عدة أمتار، وكاد الشيخ أن يسقط منها، لكنه تمسك بها بقوة، وكادت كتفه أن تنخلع، وكاد أن يفقد الوعي، ولكنه تماسك. صاح حفيده عبدالله:
– ياجدي.. ياجدي! ونظر إلى جده المعلق في البئر وهو ينادي: اصبر ياجدي! واختفى عبدالله.
مرت هذه الصور في نفسه وهو معلق. كان لا يستطيع التفكير إلا بصعوبة بعد أن ثبت يديه ورجليه على الخشبة. قال في نفسه:
– سأحاول أن أصعد فوق الخشبة، وهو لا يزال يلهث من شدة التعب. أسند قدمه على حافة البئر الطينية، وحاول أن يلف نفسه حول الخشبة، لكنها انغرزت من ناحية، وكادت أن تسقط من الناحية الأخرى. انقطعت أنفاسه، وتصبب العرق على وجهه المجهد، وظهرت الأخاديد في وجهه جداول يسير عليها العرق، ويتقاطر من لحيته!.
– ياإلهي لوتحركت حركة واحدة فسأسقط لامحالة، وحتى لو عطست. مرت عشر دقائق كعشر سنوات وهو ساكن في مكانه لايتحرك.
– لابد أن عبدالله ذهب ليأتي بالنجدة، فعلي أن أصبر قليلا، ثم إن حفيدي عبدالله قوي وشجاع، أنا أعرفه جيدا، وحدسي لايخيب، إنه يستطيع أن يجلب نجدة. مرت دقائق وسمع صوت حركة في أعلى البئر.
– أظنها النجدة! لا أدري كم مر من الوقت، وحتما إن عبدالله وصل، وجاءني بالنجدة، وهذا أكيد.
فنظر إلى الأعلى وإذا بكمية كبيرة من الرمل تندفع إليه مع أوراق جافة وعيدان صغيرة، فملأت عينه وأنفه ووجهه. حاول أن يمد يده إلى وجهه، ولكنه تذكر أن الخشبة سوف تسقط في أي حركة منه. هناك عيدان في أنفه، وحفنة رمل على وجهه التصقت مع العرق المتصبب، ولم يعد يستطيع الرؤيا.
حاول فتح عينه ولكن بصعوبة رأى النور مرة أخرى. أخذ نفسا عميقا، ثم نفثه لعله يخرج العيدان والرمل من أنفه، ولكن بدون فائدة!. ماذا لو عطس الآن!؟ إن عطسته قوية وقد تسقط الخشبة.
– إذن علي أن أتنفس من فمي فقط.
وأخذ يتنفس ببطء كأنه يخاف التنفس بقوة حتى لاتسقط الخشبة. تجمع العرق المتصبب والرمل على عينه، ما عليه إلا أن يدير وجهه ليبتعد العرق عن عينه، لكنه قد تسقطه هذه الحركة. مرت دقائق أو ساعات لايدري، فالوقت لم يعد معلوما لديه. الذي يعرفه أن يديه وقدميه بدأ يتسلل إليها الإعياء، ثم تحول إلى ألم شديد، وأخذ يتحول تدريجيا إلى حالة تشبه الشلل، وفجأة كادت أن تنزلق يده من مكانها، وبدون إحساس منه أو تفكير أرجعها إلى مكانها، فكادت الخشبة أن تسقط، لكنها انحدرت مسافة صغيرة، ثم ثبتت مرة أخرى.
– ياإلهي! كادت أن تكون النهاية.
سالت دماء ساخنة من يده بغزارة، ومرت إلى كوعه، صار سمع صوت نقاط الدم وهي تسقط على ماء البئر محدثة صدى رهيبا.
– يظهر أن هناك مسمارا انغرس في يدي، ولكن علي أن أصبر، فمن المؤكد أن عبدالله قادم.
– عبدالله.. عبدالله!
– حفيدي العزيز! تذكرت.. إنه كاد أن يموت من العطش، ولم يعد يستطيع المشي. ياإلهي! مرت ساعات ولم يعد، لابد أنه مات من العطش, لا لا.. أكيد إنه أقوى من ذلك، إنه كان فقط يريد أن أحمله على ظهري.
لازالت الريح تسف الرمل والتراب على وجهه، ولازال صوت نقط الدم يصعد من ماء البئر قطرة بعد قطرة، محدثا صدى قويا يصم الأذن!.
– أين عبدالله!؟ أظنه الآن مرميا على الرمال في الصحراء وهو يحاول تحريك يده فلا يستطيع، والرمال تدخل إلى عينه وفمه، والذباب الصحراوي الخبيث يقف على وجهه!. وقف شعر رأسه، واقشعر جلده عندما مرت هذه الخاطرة في ذهنه. إذن؛ لن ينقذه أحد! سيبقى في البئر وسيموت في البئر..! لا يهم، هو راض، لو مات هو وعاش عبدالله! لقد اوصاني أبوه عليه كثيرا!.
– ياابتي لاتغفل عن عبدالله، فالذئاب كثيرة!. تذكر ذلك.., الذئاب كثيرة.. الذئاب كثيرة.. الذئاب كثيرة!.
إنه يسمع صدى صوته الداخلي في البئر:
– لقد أكلت الذئاب عبدالله, لا..، لم أسمع عواء الذئاب, وكيف أسمعها وأنا في بئر!؟ إذن؛ فقد أكلت الذئاب عبدالله، وثيابه ممزقة، وهو أشلاء على الرمال. حتى لو أنقذوني! فكيف سأعيش مع ابني وأنا فرطت في عبدالله!؟ فأسمع الملامة القاتلة مدى حياتي. آه لقد فات الوقت والآلام لاتطاق . لم أعد استطيع فتح عيني فقد امتلأت ترابا وعرقا.
ومر وقت طويل ولا أمل!.
– إذن لألقي بنفسي في البئر فهذا ينهي عذابي, لا، لن ألقي نفسي. علي أن أتمسك بكل قوتي، فإن سقطت فليس ذلك مني. ياإلهي! لقد نسيت، علي أن أنادي بأعلى صوتي لعل أحدا ينقذني.
– ياعبدالله , ياعبدالله , ياعبدالله.. انقذوني, انقذوني!. الصدى في البئر قوي جدا، ولكن من يسمعني في بئر في صحراء لا أحد فيها؟!!
تذكر في نفسه أن الله هو الذي يسمعه، فقال: لقد نسيت الله، أنساني الشيطان!
– الله.. الله. سمع الصدى في البئر مستمرا.. الله الله الله..، يحدث نفسه:
– لم أقل شيئا، ولم أفتح فمي، لا أدري.. هل قلت شيئا أم أني أتخيل!؟ سأنادي بأعلى صوتي:
– يا الله….. دوى نداء قوي جدا، ياالله اهتزت له البئر، لم يدر كم كانت قوة ندائه! ولكنه أطلق لصوته كل قوته المتبقية, ولحظة سكون رهيب مرت فإذا به يسمع صوت حفيده.
– وصلنا ياجدي، وصلنا ياجدي، تمسك! فمعي مجموعة لإنقاذك..!