الأعمى

الاعمى 1

كنت مهموماً وشارد الذهن وأسير مسرعاً في سوق مزدحم فاصدمت بشاب طويل أشقر الشعر وعيونه زرقاء ووجهه ممتلئ فصرخت به

  • هل انت اعمى؟! . وقف مكانه ينظر بعيداً عني وقال بعد ان اخذ نفساً
  • نعم انا اعمى يا أخي فلا تلمني . أصابتني قشعريرة وضاق نفسي وكدت اسقط على الارض فقلت له المعذرة يا اخي ولكن لا يظهر عليك
  • – نعم الكل يقول ذلك ولا يعرف هذا الا اسرائيل, سرت مسرعاً وتركته يسير في الزحام وفي ذاكرتي قوله الغريب فماله واسرائيل .

في اليوم التالي وبينما انا جالس في مسجد الحي وإذا بنفس الشخص واقفاً يصلي جلست جنبه وبعد ان اتم صلاته وسلمت عليه قلت له انا الذي صدمتك البارحة واكرر اعتذاري ولكن ما شغلني قولك الغريب لا يعرف ذلك الا اسرائيل ولو ان ذلك فضولاً مني فما لك واسرائيل ، سكت قليلاً وكأنه يستعيد ذكريات ماضية وقال:

  • تعرف يا اخي ان اسرائيل ضربت بلدنا واستعملت كل الاسلحة المحرمة وغير المحرمة وانا كنت في حينها جندياً في جبهة القتال , توقف عن الكلام وظل صامتاً وعيونه شاردة ودموعه تنزل على خده فقلت له
  • لقد اقلقتني يا اخي وزدت علي همي افلا تتكلم بشيء ؟
  • فقال لي: انت لا تعرف قصتي وانا لا احب ذكرها لاحد مسكته من يده وقلت له ارجوك يا اخي ان صبري قليل وان لم تقص علي قصتك فلن استطيع النوم وقد تضحك علي من ذلك كنت اتكلم وهو شارد حزين نظرت الى هذا الشاب المفعم حيوية وكانه لم يمر كمد أو هم في حياته رجوته حتى تكلم وقال لي – ساقص لك قصتي ولكن خارج المسجد . اخذته من يده وخرجنا وجلسنا على مقاعد موضوعة في مدخل المسجد وكان الجو جميلاً وهادئاً ونحن لوحدنا فقال: هل ترى على وجهي اثر حزن او هم؟ . قلت له : لا والذي يراك يظنك احسن الناس حالاً واسعدهم . قال : فعلا وهو كذلك ولكن سعادتي بإيماني بالله فانه هو الذي يمدني بالصبر والقوة التي تجعلني ارى العمى نوراً واقول لعل الله اعمى عيني حتى لا تاخذني بسهام الشيطان الى النار وارى فقدي لاهلي بان الله ارادني ان اكون من عياله وقد يختصني اكثر وكلما تذكرت حال رسول الله (ص) وهو خير خلق الله وقد اختاره الله اقول في نفسي ارجوا ان يكون ذلك اختيار لي من الله فافرح وانتشي على ما انا فيه فاسعد بقرب الله.

– لقد شوقتني يا اخي فهل فقدت اهلك وبصرك اخبرني بالله عليك كيف ذلك . اعتدل في جلسته وادار رأسه نحوي وكأنه يراني وقال : كنت شاباً يافعاً وعمري زاد على العشرين وكان اهلي من الاغنياء ووالدي مسؤول كبير في الدولة وعندنا بيت كبير ومال كثير وكانت لي سيارتي الخاصة بي ومصروفي بغير حساب وقد طاشت بي الدنيا وانحرفت عن الصحيح ولم يلمني احد فلا والدي يهتم لذلك ولا احد من اهل بيتي الا جار لنا كان من اهل الله . كنت اراه يذهب امامي الى المسجد وانا اضحك عليه ولكني كنت احبه كثيراً وكذلك كل اهل الحي يحبوه وكان بين الحين والحين يجلس جنبي في مدخل بيتنا ويحدثني عن شيء لم اكن افهمه كان يذكر لي حلاوة الايمان وسعادة الدين وعن الصلاة والقرب من الله وكم مرة قال لي انه في صلاته وصومه في سعادة اضعاف اضعاف سعادتي بعبثي ومجوني لم يكن فقيراً وله دار يضاهي دارنا وكان كلامه يؤثر في نفسي وكنت الوم نفسي بعد كل فعل سيء واتذكر هذا الصديق ولكن شبابي وجمالي ومالي منحاني قوة كبيرة استعملها في تحطيم الاخلاق وتماديت في كل شيء .

وعندما حشدت اسرائيل الحشود لنا كنت انا جنديا في الاحتياط وذهبت الى منطقة اخرى للقتال, ولكني لم اصبر ولا يوم واحد وهل اترك بيتي وراحتي ومتعي وسيارتي لشيء لا افهمه وهو الذود عن الوطن والدين ؟! لكن فراري لم يرضي والدي الذي طردني من البيت خوفاً من المسؤولية وعندما بدأ القصف على المدن والطائرات تهدم البيوت وتقتل الناس بلا رحمة بحجة وبدون حجة كنت انا لا زلت حالما ماجناً فهم لن يصلوا لي وهذا اهم شيء وكنت اتنقل من بيت قريب لي الى اخر وكانت سيارتي معي وفي جيبي مالاً يكفيني اعواماً وكنت غائباً عن الوعي .

في يوم قررت الذهاب الى بيتنا الكبير لأرى اهلي وخاصتاً امي وكذلك حن قلبي لأن اسمع من صديق مجلسي وجاري الشاب الطيب ولكن ما استدرت الى شارع بيتنا واذا بي اشاهد كتلة من نار عظيمة سقطت على دارنا واهتزت الارض واندفعت السيارة وكادت ان تنقلب اطفأت مسجل السيارة والذي كانت احدى المغنيات الماجنات تغني وباعلى صوت عندها عاد لي وعيي وبدأت اسمع المضادات الارضية وانين الطائرات واصوات انفجار القنابل ولم اكن اسمعه قبل ذلك وكأني كنت نائماً فانتبهت حتى ظننت نفسي شيئا اخر . اقتربت من البيت الذي تهدم اخره واخرج المتطوعين من تحت الدار والدي ووالدتي واخوتي الثلاثة واختي الكبيرة اما اختي الصغيرة وكان عمرها اربع سنوات فكنت اسمعها من تحت الانقاض تبكي وحاولنا ان نصل اليها ولكت مضت ساعات ولم نستطع انقاذها وحدث انفجاراً شديداً بعد ظهور رائحة الغاز المتسرب من مطبخ البيت المتهدم وبعدها سكتت اختي وسكت الامل الباقي في قلبي لأن ارى احداً من اهلي حياً واقفاً معي .

سكت قليلاً وكانت الدموع تصبب من وجهه بغزارة ، تركت الناس يحفرون الانقاض وجلست الطم وجهي امام الدار فتذكرت صديقي وجاري فنظرت الى دارهم الذي لم اكن اره واذا به مصاب كذلك وقد اخرجوا جثثاً من تحت انقاض بيتهم ولكنه اخرج بصحة جيدة . كان يوماً رهيباً علي ولكن كان صحوة وانتباه فعرفت مكاني وقيمتي الحقيقية كأنسان لا كحيوان وفي اليوم التالي وبعد ان دفنت اهلي احسست انني دفنت معهم الماضي واني اولد من جديد واول شيء قمت به هو مرافقة صديقي وجاري ومشيت معه على طريقته فتعلمت الصلاة والايمان وطريق الرحمن ولأن بيوتنا تهدمت فكنا نبيت في المسجد وكان يطول الحديث بيننا كان يقول كلاماً جميلاً يهز اوتار القلب

  • قال يوماً بالرغم من ان الالم يعتصرنا على اهلنا واقاربنا ووطننا لكننا لسنا طلاب ثأر لدنيانا وسنحارب اسرائيلا لانها تحارب الله واهله وما جاءت الا قاصدة الاسلام الذي هو اكبر عائق امام سيطرتها على العالم لذلك نحن نحاربها فنحن لا نريد ان نغير حياتهم كما يقولون ويدعون بل هم يريدون تغيير حياتنا لنكون عبيداً لها ولليهود ولن ندعها لاتقضي على ديننا وهذا هو اقوى دافع للجهاد في سبيل الله . قال لي يوما سنذهب مع مجموعة متطوعين لقتال الجيش الاسرائيلي فقتالهم اصبح فرضاً على كل مسلم كنت مندهشاً من فقهه وارائه حتى كنت اظنه عكس ذلك او لاقل افهموني عكس ذلك!
  • وهل ذهبتم الى هناك؟ قلت له وكنت استعجله بالكلام فلا صبر لي.

ـ اصبر يااخي ساكمل لك نعم ذهبنا الى وحدتي العسكرية سويةً وكان نشيطاً جداً بينما كنت ثقيلاً كان كالغزال يركض كيلو مترات ولا يتأثر وكانه كان مدرباً لسنوات وبالرغم من حركته الكثيره بالنهار الا انه كان يقضي معضم ليله بالصلاة وأستطاع هو و ثلاثة معه ان يتسللوا مسافة بعيدة ويصيبوا قاعدة اسرائيلية موقتة لسمتيات وعادوا سالمين وبعد ايام وبينما كنت اقاتل وبالرغم من ان الطائرلت فوقنا فلم يتسلل أي خوف الى نفسي وبالرغم من ان الدبابات نراها امامنا لكنها لم ترعبنا وبقينا نقاتل بقوة ولم يستطيعوا ان يصيبوننا لكثرة تنقلنا وحركتنا وفي احد المرات اطلقوا علينا شعاعاً يعمي العين وبالرغم من ان صديقي كان يناديني باعلى صوته لاتنظر لاتنظر لكنه كان متاخراً فاصابوني بعيني التي احسست بها ناراً ونقلوني الى المستشفى ورجعت الى مدينتي بينما بقي صديقي في الجبهات يقاتل ولا زالت صورته في مخيلتي حاملاً راية الله واكبر يهزها بيده واسمعه ينادي بأعلى صوته الله واكبر .

قالوا لي انت اصبحت مجنوناً لفقدك صديقك اذ لم يعد من الجبهات بعد ذلك وكما ترى فاني فقدت عيني واهلي واصدقائي ولكني لم افقد رحمة الله التي احسها في داخلي فتمنحني السعادة فان الله انقذني . بكيت ولم ابكي قبلها فنحن الاطباء تجلدت قلوبنا فقلت له

– وهل عرضت نفسك على الاطباء؟ فحالتك يمكن علاجها وبالرغم من اني لست طبيباً للعيون ولكني اعرف ذلك فقال لي لقد عرضت نفسي مرة واحدة لاخصائي عيون ولم يبشرني بخير ولأني الان فقير جداً فلا حيلة لي وقد مضى علي سنة كاملة وان بدون اهل ولا دار واعيش في المسجد اتفقنا على اللقاء في اليوم التالي وذهبنا الى صديق لي اخصائي بجراحة العيون وبعد فحص دقيق اخبرني بامكان اجراء عملية جراحية يستعيد بها بصره ان شاء الله فان الاصابة بحروق الليز يمكن شفائها ولكن هذه العملية لا يمكن اجرائها لنقص المعدات بسبب الحصار ولا تتم الا في الخارج ومكلفة جداً سألته هل لديك مالاً او أي شيء تبيعه؟

  • لا لا املك شيئاً
  • – وبيت اهلك اين ذهب
  • لم اعد اليه منذ هدم ولما اني ذهبت مباشرة الى جبهات القتال واصابني ما اصابني فلم يخطر ببالي بيت اهلي
  • اذن فكل ممتلكات اهلك ومصوغاتهم موجودة تحت الانقاض؟
  • قال لي لا ادري فربما يكون ذلك . ذهبت معه الى داره لقد ترك كما هو ولم يمسه احد بينا الدور الاخرى كلها عامرة واعيد بنائها بصورة جيدة – سنأتي بعمال غداً وتحت اشرافي سنرفع الانقاض ولا تشغل بالك بالتكاليف فسأتكفل انا بذلك . في اليوم التالي بدانا برفع الانقاض واستمرت العملية اسبوعاً كاملاً استخرجنا اثاثاً بصورة جيدة ووصلنا الى المكان الذي نظن ان المصوغات والمدخرات موجودة فيه وفعلاً وجدنا كمية كبيرة من العملات الاجنبية والذهب لدرجة لا تصدق فقلت له
  • لقد اصبحت غنياً جداً يا اخي وبعد ان بعنا معظم الانقاض والاثاث بنينا بيتاً صغيراً مكانه وسافرت معه الى بلد قريب حيث اجريت له العملية وكان يوم رفع الضماد مشهوداً فلما رفع الطبيب الضماد عن عينه سأله هل ترى شيئاً فقال لا واعاد عليه ومسح له عينه ووضع له قطرة ومسحها مرة اخرى فقام من مكانه ونادى بأعلى صوته الله اكبر الله اكبر حتى اجتمع علينا الكثير من المرضى والعاملين في المستشفى ووزعنا عندها الحلويات ورجعنا بعد ايام الى مدينتنا العزيزة وبكى كثيراً عندما رأى بيته وتذكر السيارة فقد تركها مودعة عند صديق له وفعلاً ذهبنا الى ذلك الصديق الذي فرح به وكان قد رصف السيارة في الكراج ولا زالت جيدة وبعد ان ركبنا لها اطارات جديدة اخذناها واعدنا تنظيفها فعادت كأنها جديدة تماماً وفتح الله على اخينا كما فتح على نبيه ايوب بعد ان شافاه من سقمه فانه من يتق ويصبر فان الله لا يضيع اجر المحسنين وتزوج وله الاولاد والبنات وبيت عامر جنب المسجد الذي بناه من ماله الخاص وهو الان عوناً لكل فقير ومحتاج ودائماً يقول هذا فضل الله فلن ابخل به على عياله .

اترك تعليقاً